محطات في الثورة (6)... في سقوط حلب المستمر

محطات في الثورة (6)... في سقوط حلب المستمر

18 ديسمبر 2020
+ الخط -

شهد العام 2016 أقسى هزائم الثورة وأكثرها مرارة، ابتداء بانعدام خيارات ثوار داريا للاستمرار في صمودهم بعد حصار استمر أكثر من ثلاث سنوات، ما دفعهم للانسحاب من المدينة إلى إدلب، شمالي سورية، وقبل أن تستوعب الثورة خسارة أحد أهم مواقعها ونماذجها الثورية وإحدى أبرز ملاحمها ضد آلة القتل الأسدية وحلفائها، بدأ الحصار يضيق على أحياء حلب الشرقية بعد فشل المعركة الثانية لكسر الحصار عن حلب. ضيقُ الحصار كان في تناسب مضطرد ومتسارع مع سوء الأحوال الجوية والانخفاض الحاد لدرجات الحرارة والكثافة الجنونية لقصف السوخوي الروسي وتردي الوضع الإنساني، حتى صار التهجير خيارا وحيدا في مواجهة المذبحة.

تبقى خسارة المعارك في الحرب احتمالا قائما يمكن التعامل معه، ما لم تخلق تلك الخسارات محفزات القبول بالهزيمة والاستسلام لها باعتبارها واقعا محتوما ونتيجة لا مفر منها لمؤامرة كبرى، تتجاوز قوتها إمكانيات بنادق المحاربين وتتجاوز مداد أقلام كتّاب الثورة وشعرائها ومفكريها، ويعلو صوتها على حناجر الناشطين وجذريتهم، وتحطم أمواجها مشاريع المؤسسات المدنية الثورية الخدمية والتعليمية والإنسانية، وتفرض بسطوتها أزلام الدول وتجار المواقف ممثلين للثورة ومتحدثين باسمها.

لم تنته خسارة المعركة في حلب بتوقيع ممثل ثوارها اتفاق الخروج من المدينة، بل بدأت مع أولى قوافل الخارجين من حلب إلى ريفها الغربي هزيمة أكثر مرارة، كانت أول ملامحها ممارسات القيادي في جبهة النصرة أبو بلال قدس، الذي عطل عملية خروج بقية القوافل بعدما تأكد من خروج جميع مقاتلي جبهة النصرة من أحياء حلب الشرقية ووصولهم إلى ريف حلب الغربي، بعد أن كانت جبهة النصرة قد أفشلت مفاوضات الهدنة في حلب الشرقية برفضها سحب مقاتليها، الذين لم يتجاوز عددهم حينها مئتي مقاتل، من المنطقة، وبقيت الفصائل عاجزة عن التعامل مع هذا الموقف المهين لها، واضطر آلاف المدنيين للبقاء في العراء أكثر من 24 ساعة وسط الثلوج وليل دامس ونقاط رباط فارغة ومليشيات إيرانية طائفية وطائرات حربية وقاذفات روسية تكسر صمت الليل وتفوقه رعبا. نساء وأطفال سجلوا مقاطع مصورة ونشروها على منصات التواصل الاجتماعي أملا باستفزاز مدفعٍ لقائد فصيل فينقذهم من سطوة أبو بلال قدس ومن خلفه الجولاني.

استمر مسلسل الهزائم بأن بات الجولاني صاحب النفوذ الأول في منطقة إدلب بعد تفكيكه لمعظم فصائلها بما فيها أحرار الشام، التي كانت تباهي يوما بأنها أكبر الفصائل وبيضة القبان وميزان الساحة الشامية، فلم تتعلم الفصائل من درس حلب القاسي ولم تحفزها تلك الخسارة المرة لتشكيل قوة منظمة وفق هرم قيادي واضح يمكن له أن يقف سدا منيعا أمام مخططات روسيا في فرض سيطرة الأسد على مزيد من المناطق من جهة، أو أمام مخططات الجولاني في فرض نفسه كصاحب وحيد للقرار في المنطقة من جهة أخرى.

  لكن ليست وحدها الفصائل من لم تتعلم من درس حلب، فالمماحكات الصبيانية والمزاودات ما زالت تشكل جزءا رئيسيا في مناخ العمل المدني والهيئات الثورية المدنية، ولا تزال منطقة ريف حلب الشمالي بلا تنظيم حقيقي على المستوى المدني أو حتى على المستوى العسكري، ولا تزال حالة الانفلات الأمني أبرز الحاضرين في المنطقة من خلال مسلسل اغتيالات مستمر وعبوات ناسفة.

كما لا تزال مؤسسات المعارضة السياسية الرسمية تغرد خارج السرب وتمضي في مسارات معاكسة للرغبة الشعبية، وليس مفاجئا استمرار المؤسسات الرسمية للمعارضة بهذا النهج، المستغرب هو استسلام شريحة واسعة من السياسيين والمفكرين والناشطين لهذه المعارضة وممارساتها ومحاولاتها استغباء الشارع السوري. فباستثناء مقالات وتغريدات ومنشورات هنا وهناك، لم تشهد السنوات الثلاث الماضية أي محاولة جدية للانقلاب على الواقع الذي فرضته الدول في مؤسسات تمثيل الثورة السورية.

ولا تزال مخيمات اللاجئين تغرق كل شتاء. يتكرر مشهد مناشدات زوجة شهيد وأم لأيتام من قلب الوحل، أو لأب قدم أبناءه وكل ما يملك للثورة من خيمة تغرق وسط بركة من الطين والقهر، ولم تتعلم مؤسسات المجتمع المدني السوري من هزيمة حلب فتفرض على مجتمع المانحين تغيير خطة أولوياته وحجم استجابته لمعاناة المخيمات في الشتاء.

ولا تزال مخيمات اللاجئين تغرق كل شتاء. يتكرر مشهد مناشدات زوجة شهيد وأم لأيتام من قلب الوحل، أو لأب قدم أبناءه وكل ما يملك للثورة من خيمة تغرق وسط بركة من الطين والقهر، ولم تتعلم مؤسسات المجتمع المدني السوري من هزيمة حلب فتفرض على مجتمع المانحين تغيير خطة أولوياته وحجم استجابته لمعاناة المخيمات في الشتاء.

لم يكن لآلاف صواريخ التاو التي كانت سقفا للدعم اللوجستي أن تحقق توازنا للقوى في وجه أحدث قاذفات السوخوي الروسية، كما لم يكن من السهل التعامل مع تواطؤ إدارة أوباما بعد تبنيها لفكرة ترك روسيا تغرق في مستنقع شبيه بمستنقع أفغانستان، بحسب ما صرح به أنتوني بلينكن، المرشح الحالي لمنصب وزير الخارجية الأميركي، والذي كان مستشارا لأوباما عند التدخل الروسي في سورية، كما لم يكن من السهل التعامل مع انعكاسات وآثار الصراع داخل معسكر الداعمين أو ما كان يعرف بـ"أصدقاء الشعب السوري"، تركيا وقطر من جهة، والسعودية والإمارات من جهة أخرى.

بالتأكيد كان لكل تلك العوامل الخارجية تأثير لا يمكن إنكاره، إلا أن استمرار مسلسل الهزائم والفشل في التعامل مع مسببات الانهيار في حلب يؤكد أن العوامل الذاتية كانت وما زالت حاضرة، وتعادل في تأثيرها العوامل الأخرى، كما تشي، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، بأننا نتجاوز في خسارتنا مفهوم الهزيمة في المعركة وصعوبة تجاوز صدمتها إلى مفهوم الاستسلام لها.

فإن صحت وجهة النظر القائلة بأن الدول ومواقفها كانت سببا في هزائمنا، بدءا بهزيمة حلب وانتهاء بوضعنا الحالي، فلماذا ينتظر أصحاب هذا الرأي والمؤمنون به إدارة أميركية جديدة ومناخا إيجابيا بين السعودية وقطر وتركيا؟ وإن كان الرأي القائل بتجاوز العوامل الذاتية في تأثيرها أي عوامل أخرى هو الصحيح، فلماذا لا يجتمع أصحابه في مشروع وطني يمكن له أن يعيد طرح الملف السوري على طاولة ما تبقى من أصدقاء وفق مفهوم المصالح المتقاطعة لا التبعية والاستزلام ؟ وما الذي يمنع كلا الفريقين من التوصل إلى قناعة مشتركة بأن الأزمة الحالية للثورة والبلاد تستحق مؤتمراً وطنياً حقيقياً نتجاوز فيه المواقف المسبقة ونستفيد من التجارب السابقة، لينتج خريطة طريق موضوعية وواقعية لسبل وقف الهزائم وخطوات استعادة الثقة وزمام المبادرة؟

دلالات

73611A05-8CCD-414F-A181-15FDE3FC1D86
73611A05-8CCD-414F-A181-15FDE3FC1D86
أسامة أبو زيد

ناشط سياسي سوري، مواليد 1986، اعتقله النظام مرات.

أسامة أبو زيد