نعيٌ مؤجَّل لقطٍّ عاشق

نعيٌ مؤجَّل لقطٍّ عاشق

15 ديسمبر 2022
فتاة فلسطينية مع قطّتها، أمام منزلها في غزّة، أيار/ مايو 2021 (Getty)
+ الخط -

قبل عامٍ تقريباً، لم يخطر لي وأنا خارجٌ من منزل خالة أبي في مدينة نابلس، أنّ مسحةً على رأس قطٍّ يتيمٍ يبلغ من العمر ثلاثة أسابيع، ستصنع منه صديقاً يُرافقنا إلى بيت لحم. يدي أشعلت وجدانه. هكذا، لم يتقبّل فكرة أن يخسر ما حظي به، واستمات في اللحاق بي، لدرجة أنّه كاد أن يُدهَس من مركبةٍ عمومية، إلى أن حقّق رغبته ورغبتنا الخفيّة، في أن يَصحبنا في مشوار عودتنا اللّيلي.

في البيت، أخرجنا هذا الصغير من داخل الكرتونة نتفحّصه بعيوننا، وخُضتُ معركةً مع أُمّي وأخي الصغير على تسميته، ربحتُها أنا في المُحصّلة: أسميته "سُومَر"، على اسم صديقٍ روائيّ من سورية، حتّى إنّ أخي الذي خسر المعركة، صار يصطنع حديثاً ساخراً أمامي وهو ينظر إلى القطّ: "يخي بتحسّه من اسمه بِسْ مُثقّف".

كومضة، تمرّ التفاصيل في رأسي مثل لمح البصر، وأنتقل فجأةً إلى مشهدٍ آخر في ذاكرتي دون اتّضاح علاقة هذا الاستدعاء. أجلسُ فيه القُرفصاء وسط منزلٍ قديم مُهَدَّم، أقبض قبضةً من أثر إبراهيم النابلسي، وأُغادرُ من فتحة الباب الذي قُصف بالصواريخ، مُتجهاً عكس تيار النّاس والصحافيين المُتدفّق إلى الداخل. كان هذا في يوم اجتمعت فيه مُقوّمات "دولة" كاملة لاغتيال شابٍّ لم يبلغ العشرين، وسط البلدة القديمة بنابلس.

أسبوعان حافلان بالموت كدتُ فيهما أن أتفجّر. كان هذا المشهد على مرمى أسبوعٍ واحدٍ فقط، من مقتل صديقي الصغير "سُومَر" الذي لم أستطع نعيه على صفحتي، في ظلّ أخبار الشهداء في نابلس، ومن قبلهم مجزرة غزّة، ومن بعدهم جنين. وهكذا، مضى على نعي قطّي المؤجَّل أكثر من شهرين، إلى أن قرّرت دون سابق إنذار أن أبوح بالقصّة وأنا جالسٌ الآن إلى مكتبي، وخارج المنزل ثَمّة خمسة شهداء في هذا اليوم. يا ربّ! أشعورٌ بالذنب حتّى في أحزاننا الخاصّة؟

المُهم... بشعور الأب، شاهدتُ سومَر يكبر وتكبر معه معاناته من فقدانه أُمّه، ظلّ يمُصّ فِراء بطّانية الفراش مثل رضيع كلّما أتى عليها، حتى بعد أن كبر حجمه وصار يافعاً. لم يكن سومَر اجتماعياً، وكُنت أفرط ضحكاً وأنا أُراقبه من شرفة المنزل يُحاول بناء علاقات مع قطط أُخرى، وأحزن حين كان يعود خائب الظنّ مُهَشَّماً من القطط الضجرة. إلى أن جاء اليوم، الذي نجح فيه باستمالة قطّة سمراء، يناديها بالمُواء وتُناديه، ويخرجان معاً لأيام، ثُمّ يعود إلى البيت جائعاً، وهكذا دواليك.

تزامناً مع حياة سومَر الخاصّة، كانت البلاد تشتعل بالأحداث وأخبار الشهداء، الكثير من الدماء في الشوارع، كان القتلُ يُوزَّعُ في الشوارع توزيعاً، والمُهمّ في هذا، أن سومَر كان بعيداً عن كُلّ تلك الأحداث. بعد أيام، وصل إلينا خبر أنّ أحد جيراننا في الحارة "وزّع" سمكاً مسموماً انتقاماً من كلبٍ روّع طفله، حبسنا القطّ "العاشق" في المنزل وقد أصابه الاكتئاب، وتتالت الأخبار، ووجدنا حبيبته السمراء مقتولةً بالسُّمّ، بطنها مُنتفخ ويُغطّيها الذُّباب.

لم أستطع نعيه في ظلّ أخبار الشهداء في نابلس وغزة وجنين

بعد أُسبوع، فلت هذا العاشق من باب المنزل يبحث عن حبيبته، غاب لمدّة يومين، وزّعت خلالهما البلديةُ سمكاً مسموماً استجابةً لجارنا الذي لم يُشف غليلُه، سمكاً لو أطعمتْه للكلاب الجائعة بغير سُمّ، لَكَفَتها "شرّ" نُباحها. وبعد أن طال غياب "ابننا" سُومَر، الجميل، وجدناه خلف العمارة ببطنٍ منتفخ وجسمٍ متخشّب. لقد قُتل على أيدي موظّفي البلديةُ، لأنّ كلباً روّع طفل أحدهم. هكذا، كُتب على عائلاتٍ كاملة من القطط والكلاب الموت الجماعي. فُرّغت الحارة بالكامل، وبقي القاتل والشهود.

في الواد، دفنّا سُومر بطقوسٍ عائلية. وقفت أُمّي على البلكونة تبكي وهي تشاهدنا نتناوب على حفر القبر، ونضع الحجارة حدوداً له. لم أستطع البُكاء، لكنّي وقفت أمام القبر، وفي ظهري "مستوطنة أبو غنيم"، وفي رأسي فكرة واحدة: أنْ بقي القتلة والشهود.


* كاتب وصانع بودكاست من فلسطين

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون