حكايات برلينية: مدينة مفتوحة على الحياة ومهرجانها "نافذة للعالم"

حكايات برلينية: مدينة مفتوحة على الحياة ومهرجانها "نافذة للعالم الحرّ"

29 فبراير 2020
ينتهي المهرجان يوم غد الأحد (Getty)
+ الخط -

يصعب التغاضي عن طقس برلين، منذ الوصول إليها لحضور أيام الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لمهرجانها السينمائي الدولي. البرد غير قارس. الثلج مختفٍ. المطر قليلٌ. هذه تفاصيل أساسية في علاقة المهرجان بالمدينة والسينما. زملاء وأصدقاء كثيرون يعتادون المدينة ببردها القارس وثلجها الذي يُغطي أمكنة مختلفة، وبأمطارها التي تهطل بين حينٍ وآخر. أنْ تبقى درجة الحرارة فوق الصفر، بل أنْ تبلغ 10 درجات مثلاً، في فترة المهرجان (فبراير/ شباط من كلّ عام)، فهذا حدثٌ يتساوى وأهمية المهرجان في المشهد السينمائي الدولي، فالمعتاد أنْ تبقى تلك الدرجة، في فترة المهرجان، تحت الصفر، أو صفراً، أو أكثر من ذلك بقليل.

التبدّل المناخي طاغٍ، وطغيانه في دردشات الزملاء والأصدقاء أقوى من حضور السينما، الذين يأتون إلى برلين كي يُشاهدوا بعض أحدث إنتاجاتها الدولية، وبينها تُحفٌ يتحدّثون عنها أشهراً عديدة، تنتهي مع الدورة السنوية لمهرجان "كانّ". الانعدام شبه الكامل للسينما في أحاديثهم الليلية غير منبثق من طغيان التبدّل المناخي فقط، بل من ندرة التُّحف في المسابقة وبرامج أخرى في دورة هي الأولى للإدارة الجديدة، بعد 18 عاماً من قيادة ديتر كوسليك. الإدارة الجديدة معقودة على الثنائي كارلو شاتريان (المدير الفني) ومارييت ريسّنبيك (المديرة التنفيذية). لكن النصف الأول من الدورة الـ70 يعكس بهتاناً في دورة يُفترض بها، مع الإدارة الجديدة هذه بل بسببها أصلاً، أنْ تكون أفضل بكثير مما هي عليه.

لكن المدينة أوسع من نقاشٍ يبدأ بالتبدّل المناخي المُذهل (سطوع الشمس في أيام قليلة يدعو إلى دهشة معتادين غيابَها في فترة كهذه) ويمتدّ إلى الأفلام العادية بغالبيتها. فـ"قصر برلين"، المقرّ الأساسي لـ"البرليناله" (حيث السجادة الحمراء، والعروض الاحتفالية، وأفلام المسابقة المعروضة صباحاً وظهراً للصحافيين والنقّاد)، مبنيٌّ في شارع مارلين ديتريش، وفق تخطيط معماري للمهندس الإيطالي رينزو بيانو. بناؤه منتهٍ في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 1998. مكانه قائمٌ بالقرب من "ساحة بوتسدامِر"، المُشيّدة على أنقاض "جدار العار"، وبعض أجزاء/ بقايا الجدار هذا ماثلة للعيان في زوايا وأمكنة مختلفة منها، بالإضافة إلى الخط المبني عليه الجدار، الذي يمتدّ في شوارع المدينة، رغم أنّ أبنية كثيرة مرتفعة عليه هنا وهناك.
"قصر برلين"، المُفتَتَح في 5 يونيو/ حزيران 1999، مخصَّص أولاً بالمسرح. العرض الأول خاص بالمسرحية الموسيقية "أحدب نوتردام". منذ عام 2000، يختاره "مهرجان برلين السينمائي الدولي" مقرّاً أساسياً له، مع "فندق هيات"، القريب جداً منه، والصالات الـ9 لـ"سينماكس"، المفتوحة أمام جمهور يندر ألّا يملأها بحضوره أفلام البرامج المختلفة. والقصر نفسه، الموصوف بكونه أكبر الصالات في ألمانيا، يحتوي على 1754 مقعداً (هناك ورشة عمل في الطابق الأول تحت الأرض، قيل إنّها خاصّة بإنشاء صالة عرض إضافية)، ويتّسع لصحافيين ونقاد يلتقون صباح كلّ يوم في صالته تلك، قبل انصرافهم إلى مشاغلهم أو صالاتٍ أخرى، وبعضها موزّع في أرجاء المدينة.

هذا لا يُشبه "قصر المهرجانات والمؤتمرات" في "كانّ"، الذي يضمّ في عمارته 4 صالات، إحداها "أوديتوريوم لوميير"، وفيها 1488 مقعداً (هناك أيضاً صالات "بازان" و"بونويل" و"دوبوسي") تستقبل العروض الصباحية للصحافيين والنقاد، واحتفالات أول المساء على السجادة الحمراء، وإطلاق أول عرض دولي لأفلام المسابقة. اختلاف آخر قائم بين القصرين: في "كانّ"، التشديد الأمني يزداد عاماً تلو آخر، والعاملون في القصر يُفتّشون الجميع من دون استثناء أمام مداخله المختلفة. في برلين، هناك وفرة في العاملين، الذين يرتدون الأحمر ويبتسمون دائماً ويُلقون التحية على الداخلين إلى القصر باللغتين الألمانية والإنكليزية، بينما عاملو "قصر كانّ" يبدون كأنّهم غير عارفين الابتسامة نهائياً. مع هذا، يطمئن مرتادو "البرليناله" إلى أمنٍ يحميه أناسٌ "غير مرئيين"، كما تقول صديقة، تريد التخفيف عمّن يسأل عن الأمن، خصوصاً أنّ افتتاح الدورة الـ70 تلك حاصلٌ بعد ساعاتٍ على جريمة قتل تشهدها فرانكفورت. الأرقام مؤشّر للحالة التي يصنعها المهرجان. غالبية الصالات ممتلئة براغبين في المُشاهدة. القادمون إليها كثيرون، وينتمون إلى الفئات العُمرية كلّها، باستثناء الصغار. خليطٌ من لغات وهويات وثقافات، وأناسٌ عديدون مُقيمون في برلين أو في مدن ألمانية أخرى. هؤلاء جميعهم يرغبون في السينما، وقليلون هم الذين يُغادرون الصالة قبل انتهاء الفيلم.



غير أنّ غياب التُّحف السينمائية، التي يعتادها "مهرجان برلين السينمائي الدولي" في دوراتٍ كثيرة سابقة، لن يحول دون كثرة المُشاهدين. فالمُشاهدة وحدها كفيلةٌ بتبيان مدى تمكّن الفيلم من قِيَمِهِ السينمائية، أو عدم تمكّنه منها. الخيارات صعبة، فالأفلام حديثة الإنتاج، وغالبيتها الساحقة تُعرض للمرة الأولى دولياً في "البرليناله". أسماء مخرجين تجذب البعض، لكن الأميركي آبل فيرّارا، أحد السينمائيين الذين تُنتظر أفلامهم الجديدة دائماً، يُثير مرّة أخرى اختلافاً كبيراً وحادّاً بين مسحورين بجديده "سيبيريا" (2020، إنتاج مشترك بين إيطاليا وألمانيا والمكسيك)، وإنْ كان عددهم قليلاً، ونابذوه، الأكثر عدداً. أما القصّة المشهورة "بينوكيو"، فيبقى اقتباسها السينمائي الجديد للمخرج الإيطالي ماتّيو غارّوني (2020، إنتاج مشترك بين إيطاليا وفرنسا وبريطانيا) عادياً وغير مُذهل وعاجز عن إثارة أي دهشة. فالدهشة مطلوبة سينمائياً، رغم معرفة الحبكة وتفاصيلها.
للمدينة سحرٌ يصعب وصفه بكلمات. التنزّه ليلاً في بعض شوارعها متعة وراحة. التعرّف إليها نهاراً مُعطّل قليلاً، فمهرجانها السينمائي ـ الذي يؤسّسه الحلفاء عام 1951، وهم يريدونه "نافذة للعالم الحرّ" عبر برلين ـ يُثير حماسة الحضور رغم ندرة التُّحف السينمائية. "حكايات خيالية" (2020)، للشقيقين التوأمين الإيطاليين داميانو وفابيو دينّوسنزو (1988)، المُشارك في المسابقة، إحدى تلك التُّحف النادرة. عنوانه هذا ترجمة عربية للعنوان الأصلي (Favolacce)، علماً أنّ العنوان الإنكليزي مختلفٌ قليلاً: "حكايات سيئة". تُحفة أخرى آتيةٌ إلى المسابقة نفسها من كوريا الجنوبية: "المرأة التي تركض" (2020) لهونغ سانغ ـ سوو (1960). هذان الفيلمان يُعرضان في بداية النصف الثاني من المهرجان. فهل هذا مؤشّر على "تحسّن الأحوال"؟
تحتاج برلين إلى ألف حكاية وحكاية، كي تعثر في الكلمات على انعكاسٍ حقيقيّ لها. لهذا وقتٌ آخر. الآن، تحضر السينما، ولا بُدّ لتُحفٍ ما أنْ تظهر.

دلالات

المساهمون