أماكن لا تهجرها الثورة اللبنانية

أماكن لا تهجرها الثورة اللبنانية

11 نوفمبر 2019
سطح مبنى البيضة وشرفاته لمشاهدة الساحة (حسين بيضون)
+ الخط -
عند الدخول إلى وسط بيروت اليوم، تستقبلك لافتة كبيرة كتب عليها "هنا البلد وليس سوليدير"، في استعادة لاسم المنطقة قبل الحرب، عندما كانت فعلياً قلب المدينة الحيوي والنابض، ومكاناً للطبقات الفقيرة والغنية في آن (مع وجود أسواق متنوعة، مقاهٍ، مطاعم، مواقف باصات...). قامت شركة سوليدير، بعد انتهاء الحرب اللبنانية (1991)، بإعادة بناء الوسط بالكامل، محوّلةً هويته من حي شعبي متجذّر في التاريخ، إلى حي رتيب من دون هوية، يحصر ارتياده بالفئات الغنية. 
يعود الوسط اليوم لأهله، حيث تنتشر عربات الأكل والبسطات في أنحاء الساحة، كما أن المحتجين والمجموعات المنبثقة منهم، نصبوا خياماً لاستضافة النقاشات والنشاطات المرتبطة بالثورة (ينام فيها بعض المعتصمين ليلاً) جذبت فئات متنوعة مهنياً وطبقياً وطائفياً ومناطقياً. غطّت جدران المباني في ساحة الشهداء وشارع رياص الصلح، قشرة من الغرافيتي هي مزيج من الرسومات، الشعارات الثورية، المطالب، المنشورات، والشتائم بحق رموز السلطة، تغلب العشوائية عليها وتعطي فكرة عن التنوع في المطالب بين المحتجين.

امتدت هذه الكتابات والرسومات إلى مبنى البيضة الضخم الذي لم يُمس أبداً منذ انتهاء الحرب، ما غيّر من هويته ولو بشكل نسبي. للمرة الأولى يعود هذا المبنى الأيقوني إلى اللبنانيين، حيث جعل المحتجون سطحه وشرفاته مكاناً لمشاهدة ما يحصل في الساحة، كما أن مجموعات كثيرة بدأت بتنظيم ندوات ومحاضرات في النهار تحت جدرانه، بينما في الليل يصبح مساحة للرقص وسماع الموسيقى الإلكترونية.

يعتبر المبنى، منذ التسعينيات، رمزاً للحرب بسبب آثار القذائف ونمط بنائه القاسي والفج الذي يجعله أحد الأمثلة القليلة عن "العمارة الوحشية" (Brutalism وهو نمط عمارة يعتمد على العريّ الباطوني ونفور التصميم والقوة الإنشائية) في بيروت. صمم المبنى المعماري المشهور، جوزيف فيليب كرم، بطريقة عصرية و"مستقبلية"، ليكون مركزاً تجارياً يضم سينما ومكاتب أعمال، لكن اندلعت الحرب قبل انتهاء البناء. اكتسب المبنى شهرة كبيرة بين السياح والفنانين وكتب عنه الكثير من الأبحاث والمقالات، ويمكنك العثور على عشرات التصميمات والأفلام والأعمال الفنية التي تستعمله بطرق مبتكرة ومختلفة، بشكل شبيه لما حصل مع "برج المر" الشهير.


(حسين بيضون)

(حسين بيضون)


خلال المظاهرات، دخل المحتجون أيضاً مبنى لا يقل أهمية عن "البيضة"، لكنه غير معروف بنفس القدر، هو "التياترو الكبير" الذي يعتبر من الأيقونات القليلة المتبقية من فترة الانتداب الفرنسي، ويحمل توقيع المعماري اللبناني الشهير يوسف بك أفتيموس، الذي ساهم في تشكيل هوية بيروت في النصف الأول من القرن الماضي، ولا تزال بعض مبانيه قائمة حتى اليوم، من بينها مبنى بلدية بيروت الحالي، ومبنى بركات الأيقوني الذي رُمّم وتحوّل متحفاً.

عاش الـ"غراند تياتر" حقبة ذهبية من تاريخ المدينة، استضاف خلالها أهم الفرق الاستعراضية والأعمال المسرحية وعروض الأوبرا في العالم، واستقبل ثاني فيلم غنائي عربي، "الوردة البيضاء" (شارك فيه محمد عبد الوهاب)، إضافة إلى استضافته أبرز المغنين العرب وفرق المسرح التي كانت معروفة في الثلاثينيات والأربعينيات (من بينها فرقة بديعة مصابني ونجيب الريحاني، والفرقة القومية المصرية وفرقة يوسف وهبي). صمم المبنى على نموذج مسارح لندن مع قبّة تفتح في الصيف وتغلق في الشتاء، هي بالشكل نموذج مصغّر عن قبة دار الأوبرا في باريس، ولا يزال تصميمه الداخلي محافظاً على شيء من ذلك الماضي.

في بداية الخمسينيات، توقف التياترو الكبير عن عرض المسرحيات واكتفى بالأفلام التجارية، بعد افتتاح مسرح البيكاديلي الذي أخذ الأضواء منه. افتتح الأخير في حي الحمرا الصاعد حديثاً، حيث بدأت الطبقات الراقية ترتاده عوضاً عن حي الوسط الذي أصبح أكثر شعبية.
خلال الحرب، استولى المقاتلون على المبنى وتحول مكاناً لعرض الأفلام الإباحية، ثم بعد انتهاء المعارك، وقيام سوليدير بمجزرتها المعروفة، وقف الفنانون والمثقفون بوجه هدم المبنى أو تحويله إلى فندق، بنفس الطريقة التي واجهوا فيها مشاريع هدم مبنى "البيضة" خلال العقد الأول من الألفية.

خلال التسعينيات، عُرضت في التياترو أفلام وأعمال مسرحية لإعادة الحياة للمبنى وإثبات أنه لا يزال قادراً على القيام بدوره الأصلي، على خلاف ما ادعت سوليدير. ومنذ بداية الألفية الثالثة، دخل في حالة نسيان لا يوقفها سوى محاولات سوليدير دس نبض الشارع لمعرفة إن كان لا يزال متمسكاً به. أكثرية الأجيال الجديدة لا تعرف شيئاً عن المبنى الذي يفترض أن يكون ملكاً عاماً، ولولا الثورة اللبنانية لما عاد إلى الأضواء. ينظم اليوم في المبنى ندوات وجولات وحفلات موسيقية، وامتلأت جدرانه بالغرافيتي والشعارات المناصرة للثورة، كما حصل مع مبنى "البيضة".


(حسين بيضون)

من المباني الأخرى التي استردها اللبنانيون في الثورة، "بناية غندور"، المجاورة لساحة النور التي تستضيف الاحتجاجات في طرابلس. احتل المعتصمون المبنى منذ اليوم الأول للانتفاضة؛ حيث تحولت إحدى شرفاته منصة لإلقاء الكلمات والتصوير وأداء الموسيقى، ورسم عليه عدد من المتطوعين لوحة ضخمة تمثل علم لبنان كتب عليها شعارات وطنية من بينها "طرابلس مدينة الحرية".

يعود تاريخ البناء إلى عقد الستينيات، حيث كان يفترض أن يصبح براداً للمواد الغذائية والفواكه لولا وفاة المالك الأصلي وخلافات على الملكية. يشغل الطابق الأرضي اليوم أحد المصارف، بينما أهملت الطبقات الأخرى طوال عقود، واستعمالاتها الوحيدة كانت لوضع الإعلانات والشعارات الحزبية وصور السياسيين.


(جوزيف عيد/فرانس برس)

المساهمون