"أستاذٌ" يُقارع مُحتلاً: جمالية فيلم ضد وحشية إسرائيل

"أستاذٌ" يُقارع مُحتلاً: جمالية فيلم ضد وحشية إسرائيل

25 أكتوبر 2023
فرح النابلسي في "مهرجان تورنتو 2023" مع "الأستاذ" (مارت ألبار درْفيس/الأناضول)
+ الخط -

 

يُلحّ السؤال نفسه، في لحظةٍ مصيرية، كالتي يعيشها فلسطينيو قطاع غزّة وفلسطينياته منذ اندلاع "طوفان الأقصى": أي كتابةٍ تنفع؟ هذا ينفتح على أسئلة شبيهةٍ به: أتكون مُشاهدة أفلامٍ مختلفة، بعضها مُنتَجٌ حديثاً، مُفيدةً للكتابة، فالمهنة متطلّبة؟ أتصلح استعادة أفلامٍ فلسطينية، وأخرى عربية وأجنبية معنية بفلسطين وشعبها، في مواكبة الحاصل، لتثبيت تواصل ذاتي (موجود منذ زمنٍ) مع بلدٍ وناسه، من خلال صُور مصنوعة فيه وعنه، ومنهم/منهنّ ـ لهم/لهنّ؟ أي إجابات ـ يُمكن للمُشاهدة/إعادة المُشاهدة تقديمها، ولو من دون حسم ـ قادرة على مواكبة الحاصل في راهنٍ مُثقل بدمٍ وجثث وإبادة وتدمير وخنق وتزوير؟

هذا ليس ترفاً أو تنصّلاً من مهنةٍ. أسأل: من يقرأ كتابة نقدية عن فيلمٍ يُعرض في صالة، تبتعد عن هذه الجغرافيا ألف كيلومتر أو أكثر، والجغرافيا هذه تتعرَّض لأعنف وحشيةٍ إسرائيلية منذ 75 عاماً؟ من يهتمّ بمقالةٍ عن فيلمٍ، غير مُشاهَد (أقلّه إلى الآن) في بيئة تتخبّط بأنقاضٍ وغبار ملوّث بدماءٍ ودموع وقهر، وبإصرارٍ على عيشٍ، وإنْ يتلطّخ الإصرار والعيش معاً بألمٍ وخيبة إزاء صمتٍ قاتل، يُنتج دعماً أعمى لقاتلٍ؟

هذه محاولة:

عشية "السبت الإسرائيلي الأسود" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، أشاهد فيلمين اثنين، أحداثهما لحظتان تاريخيتان تختلف إحداهما عن الأخرى، وفي كلّ منهما تشابه، بشكلٍ أو بآخر، بالحاصل في الأيام الـ18 الفائتة: "غولدا"، للإسرائيلي غوي ناتيف (مُقيم في الولايات المتحدّة الأميركية)، و"الأستاذ"، للفلسطينية البريطانية فرح النابلسي. فهل تُحْسِن الكتابة النقدية عنهما في ألاّ تبتعد عن يوميات القتل الإسرائيلي، خاصةً أنّ فيهما ملامح آنيّة مُثيرة لدهشةٍ، تسبق إدراكاً واعياً بأنّ في مسار التاريخ فترات متشابهة؟

إنّه، إذاً، تمرينٌ على كتابةٍ نقدية غير بعيدةٍ عن الحاصل، وغير منفضّة عن المهنة، في آنٍ واحد. فـ"غولدا" معني أساساً بسرد رواية غولدا مائير (1898 ـ 1978) لأحداثٍ تبدأ مع اندلاع "حرب أكتوبر" (6 ـ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1973)، بصفتها رئيسةً للحكومة الإسرائيلية، أمام "لجنة أغرانات"، التي تُحقِّق في مسؤوليات التقصير الأمني ـ الاستخباري ـ العسكري، أقلّه في الأيام الأولى. و"الأستاذ"، المستلّة حكايته من وقائع حقيقية، يحاول الإجابة عن تساؤلات عدّة، أهمّها آلية المواجهة بين فلسطينيين وفلسطينيات والمحتلّ الإسرائيلي، وكيفية المقاومة (خطف رهائن، ابتعاد قدر المستطاع عن الانفعال والتوترّ في المواجهة، تحكيم العقل وتمكينه من تحقيق انتصارٍ أو كسبٍ)، إضافة إلى معنى الثأر، وكيفية تنفيذه وتأثيره على ذاتٍ وعلاقات (أيكون شافياً مثلاً؟)، من دون التغاضي عن مسائل تتعلّق بهذه الذات، وبتراكمات تُثقل عليها، وبتلك العلاقات، وما فيها من مشاعر وتفكير ورغبات وهواجس.

 

 

ذعر قيادات إسرائيلية إزاء بدء "حرب أكتوبر"، بسبب صدمة اندلاعها والقيادات غافلةٌ أو غير مكترثةٍ بتقارير محدّدة أو غير مُصدِّقةٍ أنّ مصر وسورية تستعدان طويلاً لها، يكاد يكون الذعر نفسه للقيادات الإسرائيلية نفسها، مع تبدّل وجوهها وأسماء أصحاب تلك الوجوه، أمام عملية "طوفان الأقصى". محاولة استيعاب الحاصل والالتفاف عليه، بمساعدة أميركية مباشرة، تؤدّي إلى غلبة إسرائيلية ناقصة، ونصرٍ عربي غير مكتمل؛ هذه المحاولة، الظاهرة بوضوح في "غولدا"، تُعاش إسرائيلياً اليوم، كأن لا شيء متغيّراً.

"الأستاذ" يقول، سينمائياً، إنّ كلّ مواجهةٍ يُفضَّل أنْ تستند إلى عقل وتفكير وتخطيط لإنجاحها، وللاستفادة من اللاحق عليها. هذا ليس الفيلم كلّه، ففيه مسائل تُناقَش بهدوء، كالهدوء الذي يريده فلسطينيٌّ (الأستاذ تحديداً) في مقارعة المحتلّ، وإنزال خسائر في صفوفه، وإن يكن معظم الخسائر غير دموي وغير عنيف، وهذا أفضل. اختيار جانب واحد في الفيلم غير حائل دون التنبّه إلى ما فيه من عمقٍ، جمالي ودرامي وحسّي وبشريّ، في سرد حكاية الأستاذ باسم (صلاح بكري)، وما/من يُحيط به في بلدته "بورين" (الضفة الغربية).

في "الأستاذ"، حوارات عدّة تمزج عفوية التعبير عنها بعمق مضمونها، وتبتعد عن كلّ خطابية تُفرّغ الوقائع من بساطتها وصدقها وشفافيتها وعمقها، التأمّلي والأخلاقي والبشريّ. فيه أيضاً كَمّ هائل من ضغوطٍ يمارسها المحتلّ، بأساليب عدّة، ومن بطش مستوطنيه وإجرامهم، ومن تسلّط أجهزته الأمنية والسياسية، المانعة كلّ حقّ عن أبناء البلد وبناته، ومن خنوع قضاءٍ أمام "مصالح" تلك الدولة المحتلَّة.

هذا يؤدّي، حتماً، إلى انفجار، يتمثّل أحد جوانبه بخطف جندي لمبادلته بمعتقلين/معتقلات فلسطينيين، وبمواجهةٍ هادئة وشبه صامتة، وبإدراكٍ واعٍ للأفضل والأهمّ للفلسطينيين في النزاع اليومي.

إنّها ملاحظات أولى. فهناك رغبة في كتابةٍ غير مبتعدةٍ عن المهنة ومتطلباتها، في راهنٍ يشهد وحشيةً إسرائيلية غير مسبوقة. كلّ فيلم منهما قابل لنقاش نقدي. هذا يأتي لاحقاً.

المساهمون