الأغنية السياسية المصرية: 100 مليون مغنّ منفرد

الأغنية السياسية المصرية: 100 مليون مغنّ منفرد

29 يناير 2021
اشتُهرت كثير من الفرق المصرية في ميدان التحرير (Getty)
+ الخط -

بينما يستعيد المصريون هذه الأيام ذكريات ثورتهم الكبيرة عام 2011، بحلاوتها ومراراتها المتراكمة، يبدو النظر إلى الساحة الموسيقية مربكاً. فالأغنية السياسية بمفهومها المباشر تبخرت في السنوات السبع الأخيرة، لتحل مكانها إنتاجات مصنّفة في خانة "الوطنية".

وهو واحد من أكثر المفاهيم غموضاً عندما نتناوله من الزاوية الموسيقية، إذ غالباً ما ترتبط "الوطنية" في عالمنا العربي بتبجيل القائد والنظام وأركانه، عبر ربط شخص القائد بمفهوم الوطن. فكيف وصلت الموسيقى المصرية إلى هذه النقطة؟ وكيف اختفت تراكمات قرن كامل من بناء أسس الأغنية السياسية الساخرة أو التراجيدية في أحيان كثيرة؟

بشكل سريع ومبسّط، يمكن تقسيم محطات الأغنية السياسية في مصر إلى ثلاث مراحل: الأولى هي مرحلة الأغنية الشعبية الاجتماعية غير المدعومة من النظام، المرحلة الثانية هي الأغنية الوطنية التي أداها نجوم المرحلة، بدعم تام من نظام ما بعد ثورة يوليو، والأخيرة هي مرحلة حاولت الجمع بين المرحلتين الأولى والثانية، عبر عمليات استنساخ موسيقية.

يمكن تقسيم محطات الأغنية السياسية في مصر إلى 3 مراحل: الأغنية الشعبية الاجتماعية غير المدعومة من النظام، الأغنية الوطنية التي أداها نجوم المرحلة بدعم تام من النظام، ومرحلة حاولت الجمع بين الأولى والثانية

أولى المراحلة المسجلة والمتاحة حالياً هي مرحلة سيد درويش (1892 ــ 1923) الذي يعتبر أب الأغنية السياسية الحديثة في مصر. ولعلّ تجربته التي كانت في معظمها نتيجة تعاون بينه وبين الشاعر بديع خيري، تكتسب أهميتها من محتوى الأغاني، وهو محتوى اجتماعي شعبي، خاطب من خلاله العمّال (لحن الشيالين)، والطبقات الأكثر فقراً، كما سلّط الضوء بشكل واضح على الفروقات الاجتماعية والطبقية (هز الهلال يا سيد). وقد كانت كل تلك الأعمال نتاج الحراك الاجتماعي والسياسي على الأرض، وأبرزها ثورة 1919.

خاطب درويش العمال والعربجية، والموظفين، وبائعي الورد، وحتى الحشاشين، ولم يتدهور يوماً ليخاطب القائد أو الزعيم أو "الدولة". وحتى في أغانيه المرتبطة بالانتماء وحب الوطن، لم يتطرّق يوماً إلى عظمة أي شخصية، ما جعل أعماله تتحوّل إلى هتافات ضد البريطانيين.

لكن تصالح الموسيقي المصري الراحل مع محتوى ما يقدّمه، لم يكن وحده سبب نجاحه وتماهي المواطنين معه. بل إن الوسيط الذي قدّم من خلاله أعماله لعب دوراً أساسياً في التفاعل المباشر بينه وبين المصريين، إذ إن أغلب أعماله كانت تقدّم على المسرح مباشرة، ما أتاح له التقاء جمهوره وجهاً لوجه، من دون وسيط ثالث كالإذاعة.

خاطب سيد درويش العمّال والطبقات الأكثر فقراً، كما سلّط الضوء بشكل واضح على الفروقات الاجتماعية والطبقية

المرحلة الثانية، وهي مرحلة تكريس الأغنية السياسية بصفتها أداة من أداوت الدعاية لدى النظام. بدأت هذه المرحلة تحديداً بعد ثورة يوليو/ تموز عام 1952، لتظهر في هذه الفترة مصطلحات من نوع "الأغنية الوطنية" و"الفنان الوطني"... وشكّل انتشار الإذاعة رافعة لهذا النوع من الأعمال الموسيقية التي باتت تصل إلى كل المصريين.

طبعاً، تربّع على عرش تلك المرحلة ملحنون وشعراء وفنانون بمواهب استثنائية، مثل محمد عبد الوهاب، وكمال الطويل، وعبد الحليم حافظ، وعبد الرحمن الأبنودي، وصلاح جاهين... هكذا، تمحورت أغلب أغاني تلك الفترة حول "الزعيم" (جمال عبد الناصر)، والاشتراكية التي أرساها النظام في سنوات ما بعد الملكية. فكان طبيعياً جداً أن نسمع أغنية تستخدم مفردات من نوع "بستان الاشتراكية" تحدّثنا عن عبد الناصر و"روائع" الاشتراكية: "على راس بستان الاشتراكية، واقفين بنهندس ع المَيّة، أمة أبطال، عُلما، وعمال، ومعانا جمال".

وكان ممكناً كذلك استخدام الغناء لمهاجمة أعداء الاشتراكية، بالقول بشكل مضحك "يا عديم الاشتراكية"، في ما يشبه الشتيمة. وهو ما فعله عبد الحليم حافظ في أغنيته "بلدي يا بلدي": "هنقولك يا عديم الاشتراكية يا خاين المسؤولية، هنزمرلك كده هو ونطبلك كده هو".

حدد نظام عبد الناصر شكل وأسس الأغنية السياسية/الوطنية حتى هزيمة عام 1967

ببساطة، حدد النظام في تلك الفترة الممتدة حتى هزيمة عام 1967، شكل وأسس الأغنية السياسية/ الوطنية، وجنّد لها أفضل الموجودين على الساحة الفنية، وحدد ملامحها وشروطها: مخاطبة العدو والصديق بالأسلوب المباشر نفسه، وتبجيل القائد بطريقة فجة، وباستخدام الاسم المباشر، كدلالة على قربه من الشعب: "يا جمال"، و"أبو خالد"، و"عبد الناصر"، و"حبيبنا". وبالتوازي مع أهمية الزعيم، كانت أهمية مشاريعه: من قانون الإصلاح الزراعي (أغنية خمس فدادين)، إلى بناء السد العالي (أغنية حكاية شعب).

وفي ظل النشوة التي أغرقت الساحة الفنية بالإنجازات اليومية للنظام، والموسيقى التي طمأنت المصريين إلى أن البلاد بخير، كان مشهد آخر يتشكل لا يُرى ولا يُسمع: اعتقال معارضين، وتكميمهم وتهديدهم، إلى أن جاءت هزيمة عام 1967.

ظهرت بعدها مساحة لخطاب فني آخر، يشبه بشكل ما تجربة سيد درويش، لكن أكثر وضوحاً وألماً ومباشرة، وهي تجربة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. هنا، ظهرت روايتان لما حدث. تلك التي أرادها النظام، وترجمت في أغنية مثل "عدى النهار" (كلمات الأبنودي، ألحان بليغ حمدي، وغناء عبد الحليم). وتضمنت كلمات من نوع "بلدنا عالترعة بتغسل شعرها" و"يا هل ترى الليل الحزين، أبو النجوم الدبلانين، أبو الغناوي المجروحين".

بعد الهزيمة، ظهرت مساحة لخطاب فني آخر، وهي تجربة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم

لكن الترعة والنجوم والليل الحزين لم يعكسوا حقيقة الهزيمة التي لا يزال يعاني منها العالم العربي حتى اليوم. بل إن صوتاً آخر أخبرنا رواية أخرى مباشرة. كان هذا الصوت هو صوت الشيخ إمام الذي ردد لنا كلمات أحمد فؤاد نجم "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا... ح تقول لي سينا وما سينا شي، ما تدوشناشي، ما 600 أوتوبيس ماشي، شاحنين أنفار، إيه يعني لما يموت مليون، أو كل الكون، العمر أصلاً مش مضمون، والناس أعمار، الحمد لله وأهي ظاطت، والبيه حاطط في كل حتة، مدير ضابط".

 أعاد الشيخ إمام الأغنية السياسية للشعب، في وجه الأغاني الوطنية التي كانت تبثها الإذاعة المصرية. ورغم أن تجربة إمام/نجم واصلت انتشارها طيلة السنوات اللاحقة، تماماً كما حصل مع سيد درويش، إلا أن المقارنة بين التجربتين تكشف أن ما غناه إمام كان أغنى من ما قدمه درويش على صعيد الكلام، لكن أضعف على صعيد اللحن والموسيقى. هل كانت شهرة الثنائي مرتبطة فقط بالهزيمة؟ الجواب في الحقيقة هو لا، بل إن نظام عبد الناصر حاول استيعاب تجربتهما عبر بث أغانيهما على الإذاعة المصرية.

لكن تدجين إمام ونجم بدا صعباً، فلم يمارسا أي نوع من أنواع الرقابة على ما يقدمانه، فدخلا السجن بشكل متكرر، تارة بسبب أعمالهما، وتارة بسبب تعاطي الحشيش. وبقيا زائرين دائمين للسجن، خصوصاً أنهما رفضا كل المغريات والتهديدات، ووسعا هامش المواضيع التي يهتمان بها لتشمل فلسطين والقضايا الأممية (يا فلسطينية، وغيفارا مات...).

اختلف إمام ونجم، ثم مات إمام عام 1995، وذهب عبد الناصر، وجاء أنور السادات، واغتيل السادات، وجاء حسني مبارك، وباتت الأغاني السياسية عبارة عن رقص وتصفيق لمحمد حسني مبارك. برزت في تلك الفترة مجموعة من الأغاني المفصولة تماماً عن الواقع، فكان المشهد الموسيقي السياسي، احتفاليات غنائية مستمرة بالرئيس (المخلوع لاحقاً).

في عهد مبارك باتت الأغاني السياسية عبارة عن رقص وتصفيق له

لكن في مشاهد خلفية، وهمساً، كانت أغاني سيد درويش والشيخ إمام تستعاد، وقد ارتفع هذا الصوت في مصر بعد عام 2005، وصولاً إلى ثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011، فباتت هذه الأغاني هتافات في التظاهرات. هنا، ظهرت محاولات موسيقية لاستنساخ تجربتي درويش وإمام، بالطريقة نفسها، وبالكلمات نفسها، مع فرق كثيرة، أشهرها "إسكندريلا" و"بهية".

كانت الفرقتان تغنيان "كوفرز" الثنائي بالطريقة الهتافية نفسها في الأداء. وقد شكّل ذلك نقطة ضعف، لأن الموسيقى كانت فقيرة توزيعياً، واتخذت الحفلات روح التظاهرات. كما أن الحقبة بدأت تتطلب خطاباً موسيقياً آخر لا فدادين فيه، ولا شيالين، ولا غيفارا أو نيكسون. هكذا تحولت الأغنية السياسية إلى حواديت نوستالجية، مليئة بالصراخ والهتاف، ثم جاءت 30 يونيو/ حزيران 2013، والأحداث المأساوية التي تلتها.

اختفت كل الأصوات المختلفة، سواء بالتهديد أو بالخوف والرقابة الذاتية، وعادت الأغنية الوطنية سالمة إلى أحضان النظام: من "تسلم الأيادي" إلى "بشرة خير" (الإماراتي حسين الجسمي دخل على الخط). استمعنا إلى أغان عن عظمة الدولة، وحكمتها العبقرية، وقدرتها على تدمير الأعداء بـ30 ثانية. وعاد الشعب ليكون "مفعولاً به"، ينتظر التعليمات كي يتحرك: "خدت مصر إيه بسكوتك، ما تستخسرش فيها صوتك، بتكتب بكرة بشروطك دي بشرة خير".

ولا حاجة للتوضيح أن مصر هنا هي شخص الحاكم (عبد الفتاح السيسي في هذه الحالة). وتُخاطب الأغنية المصري بصفته طالب مدرسة قاصراً: "افتحولنا كتاب تاريخنا، واحكوا للناس دول مين، قول يا أبونا وقول يا شيخنا يعني إيه 73".

بعد 30 يونيو 2013 اختفت كل الأصوات المختلفة، سواء بالتهديد أو بالخوف والرقابة الذاتية

بموازاة رقص إيهاب توفيق وحكيم، كنا نستمع إلى رامي عصام الذي هجر مصر بعد عام 2013، يقدّم أغنية وصفها بالسياسية. وحاول مع الشاعر جلال البحيري، تكوين نسخة متطورة من تجربة إمام ونجم، واستبدلا العود بالغيتار، لكن مضمون الأغنية بقي هو نفسه، كأننا لا نزال عام 1967. وأمام هذا الجمود حتى في التفاعل مع هذه الأغاني، لم يجد البحيري وعصام من حل سوى استخدام الشتيمة بشكل مباشر للتعبير عن رفض الأوضاع السياسية بشكلها الحالي (عهد العر، أو بلحة)، وكانت هذه الأغنية الأخيرة سبباً في سجن مخرجها شادي حبش الذي مات في المعتقل، وحبس شاعرها جلال البحيري حتى اليوم.

المساهمون