ميشال غوندري (1/ 2): أحبّ إنجاز الأعمال التي أودّ مشاهدتها

ميشال غوندري (1/ 2): أحبّ إنجاز الأعمال التي أودّ مشاهدتها

25 أكتوبر 2023
ميشال غوندري: تذكّر فترةٍ كنتُ فيها مُضطرباً عقلياً (نور الدين زولير/فرانس برس)
+ الخط -

 

يبدأ "كتاب الحلول"، الفيلم الطويل الـ12 للفرنسي ميشال غوندري، بعملية خطف يُنفِّذها المخرج مارك بِكر (بيار نيني) لإنقاذ فيلمه من أيدي منتجيه، الذين يريدون إسناد المونتاج النهائي إلى شخص آخر، فيأخذ محطة التوضيب وذاكرات التخزين إلى قرية نائية في جنوبي فرنسا، حيث تقيم خالته (فرانسواز لوبران)، برفقة فريق صغير مُكوّن من مساعدته (فرانكي والاش)، والمُشرفة على المونتاج (بلانش غاردان) ومساعدها.

هناك، تستبدّ فورة الخلق في ذهنه، وتتناسل أفكار مجنونةٌ كثيرة في رأسه، فيسعى إلى إخراجها إلى الوجود في مواقف طريفة، مُتسبّباً في حيرة المحيطين به، غير القادرين على مواكبة إيقاع حياته الذي يختلط فيه الليل بالنهار، وتنتفي فيه الحدود بين الإبداع والجنون، قبل أنْ يقرّر تدوين وصايا تجربته في مؤلَّف سمّاه "كتاب الحلول".

القصة مستوحاة من أحداث حقيقية عاشها غوندري في مونتاج "زبد الأيّام" (2013)، اقتباساً عن الرواية المشهورة لبوريس فيان، حين دفعه ضغط رهانات الإخراج وتعقيد الفيلم إلى الدخول في حالة نفسية، وصفها بخليط بين "جنون العظمة والذعر"، وشعور أنّه "يدخل التاريخ بخلق أشياء غير مسبوقة بجدّتها"، قبل سقوطه في اكتئاب حادّ. فترةٌ عصيبة تمثّلها مخرج "إشراقة أبدية لعقل متنوّر" (2004) بمسافة قوامها خفّة روح وكوميديا، مُحقّقاً مشاهد بديعة، كقيادة المخرج أوركسترا بحركات ملتوية من جسده، أو توحّده مع خالته في أجواء هادئة، تقطع مع صخب الفيلم.

أهدى غوندري "كتاب الحلول" إلى روح خالته سوزيت، بعد إخراجه شريطاً وثائقياً عنها، "شوكة القلب" (2010)، ما يوضح مكانتها الخاصة، ودورها المؤثّر في تشجيع موهبته الفائقة منذ الطفولة.

كما أنْ لا شيء يُعِدّ لمُشاهدة "كتاب الحلول" باعتباره قصيدة شعرية مؤثّرة في مدح روح الخلق والاستقلالية، يجتاح المشاهد بذكاء الفكاهة، وابتكارية الإخراج، وصواب أداء الممثّلين، فإنّ شخصية مخرجه الهشّة والطافحة بالإنسانية، بصدقٍ مفرطٍ وزاوية طفولية يطلّ منها على الحياة، لا تخطئ طريقها إلى القلوب.

في مكناس، بمناسبة العرض الأول لـ"كتاب الحلول" في صالة "سينما كاميرا"، المُنظِّم بشراكة بين "المعهد الفرنسي في المغرب" و"سينماتيك طنجة"، التقت "العربي الجديد" ميشال غوندري.

 

(*) ما نقطة بداية صنع "كتاب الحلول؟ علاقتك مع خالتك، التي أهديتها إياه؟

لا. نقطة البداية كامنةٌ في تذكُّر الفترة عندما كنت مُضطرباً عقلياً، نوعاً ما. أردتُ فعل أشياء كثيرة، لكنّي لم أكن أعرف في أي اتجاه أذهب. كنتُ على وشك الانتهاء من فيلمٍ، كان صعباً للغاية ومرهقاً ("زبد الأيام" ـ المحرّر). أجريت تجارب عدّة مع أفكار كثيرة، وكانت النتيجة، بشكلٍ عام، سلبية تماماً. لذا، رغبت في معرفة ما إذا لم تكن هناك أشياء إيجابية عشتها ذاك العام. كتبت على بطاقات صغيرة القليل من كلّ ما فعلته، يومياتي وتجاربي ومحاولاتي وأفكاري، ووضعتها جنباً إلى جنب. حينها، رأيت أنّي أستطيع سرد هذه القصص، فقرّرت صنع فيلمٍ.

نقطة البداية إظهار، أو محاولة رؤية ما قمت به ولم يكن فاشلاً كلّياً. هناك أشياء إيجابية خرجت في الفيلم كما عشتها تقريباً، كمشهد قيادة الأوركسترا، أو عندما أجبر خالتي على الذهاب إلى المستشفى، أو شاحنة المونتاج (Camiontage). ثم أشياء أخرى سلبية.

الهدف فرز ذكرياتي عن تلك الفترة.

 

(*) هناك أيضاً فكرة تعود كثيراً في مُنجزك: تصوير طريقة الصّنع. من أين يأتي ذلك؟

منذ صغري، كنتُ مهتمّاً بالأفلام ومسلسلات التّحريك التي تُمكّنك من رؤية كيفية صنعها. كان ذلك يُثير اهتمامي، لأنّه ألهمني الرغبة في تقليده. عبر صنع الأفلام، أردت أنْ أشارك الدافع نفسه. إنّه نوع من تحفيز المُشاهدين ليقوموا بالشيء نفسه. بعد ذلك، أحبّ إنجاز الأعمال التي أودّ مشاهدتها، وهذا يُفسّر إلى حدّ ما الطريقة التي أعرض بها كيف يتمّ صنع الأشياء في الفيلم.

 

 

(*) إضافة إلى بعض اللمحات التي تكسر الجدار الرابع، هناك مشاهد كثيرة توحي بالجانب الارتجالي. أعلم أنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ أغلب الأشياء تمّ إعدادها بعناية. لكنْ، ما مقدار الجزء الذي لم تتمّ كتابته في الفيلم بالضبط؟

عندما أبدأ تصوير مشهد ما، لا أوجّه الممثلين. أتركهم يقومون بالمشهد كما يريدون، لأنّهم ربما يُقدّمون أفكاراً لم تكن لتخطر في بالي. بعد محاولات عدّة، أبدأ عملي، فأوجّههم وأستمع إلى أفكارهم. بهذه الطريقة، يكون لديّ الخيار في المونتاج، لأحتفظ بما أحبّه أكثر. عادةً، عندما يُصوَّر مشهد ما، ينجز المخرجون اللقطة الواسعة أولاً، ثم يقومون بما نسميه التغطية (Coverage)، أو اللقطات المقرّبة، لتتناسب مع اللقطات الواسعة، أو تتواصل معها. أنا أفعل عكس ذلك، لأنّي أجد أنّه، أحياناً كثيرة، يكون الممثلون أفضل في البداية، حين لا يعرفون حقّاً ما يحدث لهم، ولا يحفظون الأشياء عن ظهر قلب، ويبدون كأنّهم يبحثون عن أنفسهم قليلاً. عندها، تحدث أشياء أكثر إثارة للاهتمام. لذا، كثيراً ما أصوّر اللقطات القريبة أولاً، ثم أنتقل إلى اللقطة الواسعة، ثم أربط بينها.

بالنسبة إلى الجدار الرابع، لا أفكّر فيه كثيراً، لأنّي، فنياً وحِرفياً، أصوِّر غالباً في أماكن مغلقة (يضحك). أعرف إزالة الجدار الرابع كتعبير، لكنّه أمر علمي أكثر من اللازم بالنسبة إليّ لأفكّر به. لا أعرف، ربما يتعلّق الأمر بنوع من السذاجة، يجعل ممكناً رؤية كيف تتمّ الأشياء في أفلامي، وأنا لا أسعى إلى إخفائه.

 

(*) بالنسبة إلى العنوان، منذ الوقت الذي لم أكن أعرف فيه شيئاً عن الفيلم، وارتباطه بفترة تصوير "زبد الأيّام"، ما إنْ قرأت "كتاب الحلول"، حتى فكّرت ببوريس فيان، خاصة في تعريف الـ"باتافيزيقا" (Pataphysique) على أنّها العلم الذي يبحث عن حلول لحالات استثنائية. هل كان في ذلك إشارة؟

ما قلتَه صحيح، لكنّها لم تكن إشارة. طبعاً تأثّرت ببوريس فيان، وتقديري له نابعٌ من أنّ لدي أفكاراً تشبه أفكاره إلى حدّ ما، من دون أنْ يعني ذلك أنّي في مستواه، أو أي شيء من هذا القبيل. لديّ عقدة بشأن ذلك. عندما صنعت "زبد الأيّام"، قلتُ لنفسي: "أنا لا شيء مقارنة معه". هذا أحد الأشياء التي جعلتني أصبح (يرفع يده إلى صدغه بحركة دائرية مع صفير خفيف). لا أعرف كيف ستكتب ذلك في المقابلة (يضحك، ثم يُصفِّر ويُحرّك يده دائرياً، ويضحك ـ المحرّر).

 

(*) قيادة الأوركسترا أجمل مَشاهد الفيلم برأيي، خاصة أنّه يُعبّر عن فكرة أنّ الفنان نفسه يُصبح عصا قائد الأوركسترا، أو نوعاً من وسيط يتلقّى الأفكار ويُعبّر عنها بحركاته والتواءاته (وأي التواءات). لنأخذ هذا المشهد نموذجاً: هل حدثت الأمور بهذه الطريقة؟ ما الذي تغير قليلاً فأدّى إلى المشهد كما رأيناه في الفيلم؟

حدث الأمر بهذه الطريقة فعلياً. أكثر من ذلك، فعلت ذلك من قبل، في ظروف مغايرة عند تصوير أفلامٍ أخرى. كان الأمر يعمل دائماً بشكل جيّد للغاية، في تسجيل الجانب التجريدي من الموسيقى التصويرية. الشيء الوحيد المختلف أنّ الموسيقى كُتِبَت في الجزء الأول من التسجيل، أي عندما تكون عبارة عن موسيقى كلاسيكية عادية. هناك، غششتُ قليلا. لكنّ الفكرة كانت أنّ المخرج يستمع إلى قرص مضغوط، ثم يؤدّي اللحن للأوركسترا. وبما أنّه لا يُغنّيه بالطريقة نفسها، تنشأ موسيقى جديدة، ولا يُشكّل هذا سرقة فنية. تلك هي الفكرة.

أما في تسجيل الموسيقى التجريدية، وهذا ما أفعل دائماً، فما إنْ يعثر عازفٌ على اللحن الذي يناسبني، حتى أقوم بحركات لافتة لأطلب من الموسيقيين الآخرين أنْ يتبعوه. كانت الفكرة أنّه يُصبح، بحدّ ذاته، عصا قيادة. لكنْ ليست هناك رمزية، أو فكرة الإلهام السماوي الذي ينتقل عبر الجسد. ظننت أنّي سأنجح في نقل هفواتي وجانبي المنحرف قليلاً إلى الأوركسترا، عبر التواءات جسدي، وأنّهم سيجعلونها مسموعة عبر آلاتهم الكلاسيكية وقدرتهم على العزف. في النهاية، تمكّنا من التقاط أصوات نشاز وتحويلها إلى موسيقى.

 

(*) الرائع بخصوص هذا المشهد أنّ الفكرة وراءه جيّدة. إلى ذلك، هناك الجانب البصري لمنظر مخرج يرقص وسط أوركسترا. إنها استعارة بديعة للسينما، بطريقة ما.

لم أفكر بذلك. لكن يمكن قول هذا. إنّه الإلهام، أو الطاقة التي أستخدمها في صنع الأفلام والموسيقى.

المساهمون