كيرك دوغلاس... فيلم صهيوني طويل

كيرك دوغلاس... فيلم صهيوني طويل

09 فبراير 2020
دوغلاس بفيلم "ظل عملاق" متوجهاً للقدس في حرب 1948(Getty)
+ الخط -
لا يوجد لدى تنظيم "داعش"، نجم سينمائي يباهي به: حنطي البشرة، مفتول العضلات، أكحل العينين وجبينه واسع، وصديق عظيم للـ"الدولة الإسلامية".

يوجد فقط على وجه الكرة الأرضية دولة طائفية، عابرة للحدود والأخلاق، يمكنها على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو أن تنعى كيرك دوغلاس، الفنان الأميركي الذي رحل الأربعاء الماضي، وتصفه بـ"الممثل الأسطوري، اليهودي الفخور بيهوديته، والصديق العظيم للدولة اليهودية".

دوغلاس أشقر، ذو عينين زرقاوين، وغمازة في ذقن مدبب، نجم العصر الذهبي لهوليوود (كليشيه العصر الجميل عندنا)، وبالضرورة العبد الأشقر الثائر في فيلم "سبارتاكوس"(1960) الذي كان دوغلاس أسوأ ما فيه.

من موقع إلكتروني إلى آخر، يكون لزاماً على القارئ متابعة تحولات اليهودي دوغلاس. إنها تفاصيل يفضّل أن تقرأها في سيرة ذاتية، أو شفوياً على مصطبة، لا في مواضيع إخبارية تلحّ عليك طوال الوقت.

الرجل لم يرغب في شبابه أن يكون متديناً، ثم يكتشف بعد نجاته من حادثة طيران عام 1991، أن عليه صعود الجبل ليكتشف المعنى الحقيقي ليهوديته، وسيختار لسيرته عنوان "صعود الجبل"، ليحكي فيها كيف نجا، وهو العجوز في الرابعة والسبعين، بينما مات اثنان كانا معه في المروحية.

لدينا ممثل مصري توفي في إبريل/ نيسان العام الماضي، اسمه محمود الجندي، وله تحولات من الإلحاد حتى الإيمان بعد وفاة زوجته في حريق المنزل. يمكن أن نستمع إليه، وإلى أي قصة ذاتية في العالم، باهتمام وبما تيسّر من تعاطف.

غير أنه من الصعب جداً تخيل شخص تقدمه دولة للعالم، بوصفه الممثل السنّي الحنفي، أو المغني الدرزي فريد الأطرش. هذا السلوك المخجل تنفرد به إسرائيل.

وعليك أن تتابع سيرة الممثل الأشقر من زاوية الدولة اليهودية، هذا اسمها الرسمي، وعليك أن تنخرط بشواغل كيرك دوغلاس الدين-هوليوودية وهو يقول "لقد كنت دائماً أصوم يوم الغفران.. أعمل سينما، لكنني أصوم. واسمحوا لي أن أخبركم أنه ليس من السهل ممارسة الحب مع لانا تيرنر على معدة فارغة". (لانا تيرنر (1921- 1995) توصف بأنها ممثلة إثارة).

لولا الاستعراض الديني السمج، لكانت عبارة "الحب على معدة فارغة" شاعرية.

نتنياهو يكرم دوغلاس عام 1997 بجائزة الملك داود (Getty)

ما شأننا؟ بل إنه شأننا، حين يكون كيرك دوغلاس صهيوني الديانة، وهو يغضب إذا عرف أن هناك صهيونياً أشد مغالاة منه، ما عدا ابنه مايكل دوغلاس، أخذاً بالاعتبار أن الأب لا يحب حتى لشقيقه أن يكون أحسن منه، لكنه يفرح إذا كان ابنه من صلبه متفوقاً عليه.

مايكل تسلم في عام 2015 جائزة "سفر التكوين" بقيمة مليون دولار، لا لأنه يهودي متدين، بل لأنه النجم الهوليوودي صاحب الأوسكارين الذي يخوض معركته ضد أعداء دولة الاحتلال، ومنهم حركة المقاطعة "بي دي إس".

بان تأثير كيرك دوغلاس الذي عمّر حتى 103، على عائلته، وبدا مجدّاً وهو يمثل دور راعي جيل المستقبل الصهيوني، ينهل من تجربته الطويلة في خدمة المشروع الاستعماري.
إن أقل جهد له كان تبرعه بمئة مليون دولار، "لمشاريع خيرية" ومنها ملاعب في القدس ومسرح يعرض أفلاماً عن تاريخ اليهودية والقدس.

هذه مصاريف خفيفة أمام لعبه دور ذراع اللوبي الصهيوني، فيما يسمى العصر الذهبي لهوليوود.

افتتح شغله مباشرة في دولة الاحتلال، فكان بطل فيلم The Juggler وهو أول فيلم هوليوودي يصور على أرض فلسطين، وكان ذلك عام 1953.

أما المفخرة الدعائية الصهيونية، فكانت فيلم Cast A Giant Shadow، الذي صور في فلسطين عام 1966، وأدى فيه دوغلاس دور النقيب الأميركي ميكي ماركوس، وهو شخص حقيقي يدعى ديفيد دانيال ماركوس، انخرط في عصابات الهاغناه، فور إعلان دولة إسرائيل عام 1948، واندلاع الحرب التي خسرها العرب.

سيقتل دوغلاس (النقيب ميكي) في أبو غوش قرب القدس خطأ، بنيران صديقة، فيتوّج أحد أبطال حرب الاستقلال، أي نكبة فلسطين.

هذا الدين الصهيوني هو الذي جعل دوغلاس ممثلاً يسرح ويمرح في 87 فيلماً، بشطارة أكثر بكثير من الموهبة.

 لقد بدا الممثل الذي يضع رافعتين في حذائه حتى يزيد من طوله (175 سنتمتراً) جاهزاً ليكون حصان الرهان الإسرائيلي. إنه يدخل هوليوود بحماية اللوبي.
شاب وسيم يؤدي دور سبارتاكوس العبد المتمرد المصلوب في نهاية الفيلم. بيد أن هذا لم ولن يكفي. راقب حركته ولغة وجهه. لم يكن ينقص إلا أن يطلب كابتشينو على الصليب. لنتخيل داستن هوفمان (167 سنتمتراً) وآل باتشينو (170 سنتمتراً) هل يقبلان بهذا الأداء المسطح على أي صليب؟

ولأن سبارتاكوس دوغلاس لم ينل جائزة الأوسكار، ظل حتى آخر يوم في حياته، يحكي عن أهم ما فعله، بل وأهم من أي سينما خاضها، ألا وهو دوره في التمرد على المكارثية.

إذ إن السيناريست دالتون ترامبو كان على القائمة السوداء في العشرية التي لاحقت المشتبه بميولهم اليسارية، أو الذين رفضوا الوشاية بزملائهم، كما يروى عن ترامبو، فكان يكتب باسم مستعار، إلى أن جاء فيلم "سبارتاكوس" للمخرج ستانلي كوبريك، وتقررت المغامرة بوضع اسمه علناً، وتحدياً، مثلما في الوقت نفسه قرر المخرج أوتو بيرمنغر أن يضع اسم ترامبو على فيلم Exodus، الذي يمجد استقلال دولة الاحتلال، ويوصف بأنه "ملحمة صهيونية".

هذه شلة من اللوبي الذي اغتنم فرصة ضمور المكارثية وتحولها حتى إلى مجال سخرية، بعد أن شبعت من مطاردة المشتبه بهم، وأوضحت الطريق لمن يريد أن يكون ذا حظوة في هوليوود: إن لم تكن صهيونياً، على الأقل صفّق لنا. جون إف. كينيدي، المرشح الديمقراطي للرئاسة في عام 1960، حضر فيلم "سبارتاكوس"، وانتهت الزفة المكارثية.

كل هؤلاء كان صوتهم أخفت من صوت كيرك دوغلاس، الذي أصدر 11 كتاباً، يريد فيها أن يخلص إلى أن دوره كان بطولياً في اختراق الحظر المكارثي، بالقدر الذي "صعد الجبل" وأثبت بجدارة روحه الصهيونية.

خسر العرب ما تبقى من فلسطين عام 1967، وأصبحت حرب الاستقلال من كلاسيكيات الصهيونية الدوغلاسية، وعليه بعد ذلك أن يؤدي دوره في الحروب المقبلة. ها هو بعد أقل من ستة أشهر على اختطاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين طائرة عام 1976 إلى مطار عنتيبي في أوغندا، للضغط على إسرائيل كي تفرج عن سجناء فلسطينيين، يؤدي دور هيرشيل فيلنوفسكي في فيلم "النصر في عنتيبي" Victory at Entebbe للمخرج مارفن تشومسكي.

وفي عام 1982 إبان الحرب الإسرائيلية على المقاومة الفلسطينية في لبنان، كان كيرك دوغلاس يؤدي واجبه، ويطير من أميركا إلى إسرائيل، لمؤازرة الجرحى من الجنود الإسرائيليين.

لا يوفر دوغلاس أي فرصة لإثبات جدارته، من التهنئات الحارة باستقلال إسرائيل، إلى فيديو ترويجي لمعهد إسرائيل التكنولوجي "التخنيون". عاش قرناً ونيف، كان فيه سينمائياً ذا قدرات  غاية في التواضع، لكنه اللوبي الصهيوني حمله ودار فيه بين استوديوهات هوليوود، بينما كان رصفاؤه من أمثال مارلون براندو وأنطوني كوين محمولين على موهبتهم.

لم يكن كيرك دوغلاس أكثر من فيلم صهيوني طويل، مسكوناً بإسرائيل التي حارب معها، بما اعتبره ابنه مايكل وهو ينعاه التزاماً "بالعدل والقضايا التي يؤمن بها" مؤملاً أن يكون ذلك "معياراً نطمح جميعاً للوصول إليه".

هذا المعيار، هو الذي سيظل عندنا -مهما بلغت فبركته وسطوته- مجالاً للفضح، والرفض.

دلالات

المساهمون