أقوى ملوك أوروبا.. وقد أكلت جثّته الكلاب

أقوى ملوك أوروبا.. وقد أكلت جثّته الكلاب

07 ديسمبر 2014
الملك هنري الثامن (Getty)
+ الخط -
ليس هناك مكان في العالم، على الأغلب، لم تطأه قدم إنسان من قبل. فإذا صحَّ أن نحو ستين مليار إنسان درجوا على هذه الأرض، فهذا يعني أنها مكوَّنة من لحم البشر وعظامهم على ما يذهب المعرّي العظيم في قوله: "خفّف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد".

يستحيل، والحال، أن نعرف من مرّوا قبلنا ببقعة معينة من أرض كوكبنا. التاريخ، وهو أرشيف البشرية الانتقائي، لم يحفظ لنا سوى ذوي الأسماء الرنَّانة، أما الأسماء التي لا رنين لها في أروقة السلطة والمال، والحياة العامة إجمالاً، فسقطت في نسيان لا سبيل إلى ردّه.

هكذا، لم أُفاجأ عندما عرض مقهى "زيون بارك"، بإيزلورث، غربي لندن، الذي أتردَّد إليه لاحتساء القهوة، القراءة أو الكتابة، أو حتى لمجرّد استنشاق هواء نظيف، لوحةً بعنوان "إفطار الكلاب" تشير إلى مرور الملك هنري الثامن بهذا العقار. المكان كله الذي يقع فيه البارك ذو خلفية ارستقراطية. فقد كان (ولا يزال) ملكاً لدوك نورث امبرلند. ولعلّ إلقاء نظرة سريعة على هيئة مبانيه ومرافقه، من دون معرفة مسبقة بتاريخه، كما كان حالي عندما زرته أول مرة، ستعطيك فكرةً عن قِدَمه.

أهذه هي الحكاية؟
الملك هنري الثامن مرَّ من هنا؟

كلا، طبعاً، فملوك انكلترا كثرٌ، عبر تاريخ حكمهم الطويل، وليست هناك بقعة في عاصمة بلادهم لم تمرّ بها حوافر خيولهم أو عجلات عرباتهم. هناك حكاية لمرور هنري الثامن بهذا "البارك" الذي أقيم على أرض رهبانية كاثوليكية لم تستسلم قط لـ "دين" انكلترا الجديد، فحقَّ عليها غضب هنري الثامن نفسه.

والحكاية التي، سأسارع إلى روايتها، لا تخلو من دلالة:
عندما مات هنري الثامن في "ويستمنستر" (مقر البرلمان البريطاني الحالي) في العام 1547، نقل جثمانه إلى قصر الأسرة الملكية الحاكمة العائلي في وندزور (خلف مطار هيثرو الآن). وبما أن وسائل مواصلات تلك الأيام هي العربات التي تجرّها الخيول، أو المراكب الشراعية عبر نهر التايمز، فقد كان لزاماً على جثمان الملك أن يُسجّى، لليلةٍ، في أحد الأبنية الملحقة بدير زيون، في الطريق إلى وندزور.

ولكن قبل أن يموت الملك، الذي قامت في عهده الكنيسة الانغليكانية، باعتبارها الكنسية الرسمية لانكلترا، ودخل في صراعات دينية عنيفة مع الكاثوليك، تنبأ كاهن فرنسيسكاني يدعى وليم بيتو بأن "غضب الله سينزل على رأسه، وأن الكلاب ستلعق دمه".

فهو الملك الانكليزي القوي الذي ذُبح الكاثوليك في عهده وطوردوا كما تطارد الساحرات في ذلك الوقت، كما أنه الملك، الذي يقول بعض الآراء التاريخية، في خصوص خروجه من الكاثوليكية، إنه فعل ذلك كي يتطلق من زوجته كاثرين، ابنة الملكة الإسبانية ايزابيلا، التي كانت أرملة أخيه وتكبره ببضع سنين. وهذا الرأي الأخير ليس ضعيف الاحتمال، وخصوصاً إذا عرفنا أنه، بعد تحلله من الكاثوليكية التي تحرّم الطلاق، تزوج خمس مرات، بعضها بحثاً عن ولي عهد ذكر، وبعضها الآخر وقوعاً في حب، أو إشباعاً لرغبات.

وفي زمن لا ثلاجات تحفظ فيها جثث الموتى، وضع جثمان الملك في إحدى الغرف الملحقة بالدير حتى يطلع الصباح ويواصل رحلته إلى مثواه الأخير في مقابر عائلته، ولكن يبدو أن باب تلك الغرفة لم يكن مغلقاً جيداً، فقد شمت الكلاب رائحة الجثة، التي راحت تنتفخ، فولغت فيها أكلاً وتمزيقاً، وما إن طلع الصباح حتى كانت الكلاب قد مزَّقت جثة الملك الذي دعا عليه راهب فرنسيسكاني أن تلغ الكلاب في دمه. وهذا ما حصل فعلا.

لم يكن تحوّل هنري الثامن إلى البروتستنتية، التي سميَّت انغليكانية، كي تناسب موطنها الجديد، رغبة في الطلاق من زوجته الأولى التي لم تنجب له ولي عهد ذكراً، ولا من أجل أن يتزوج ويطلق على هواه فحسب، بل أيضاً، للاستيلاء على أملاك الكنيسة الكاثوليكية المعتبرة في انكلترا. ولهذا السبب أعلن نفسه المدافع عن الإيمان ورأس الكنيسة الانغليكانية، اللقب الذي لا تزال تحمله، إلى اليوم، الملكة اليزبيث الثانية على الرغم من تكاثر الدعوات للتخلي عنه باعتبار المجتمع البريطاني اليوم متعدد الأديان والثقافات.

كلما جلست في مقهى "زيون بارك"، بالقرب من منزلي في غرب لندن، يذهب نظري، مباشرة، إلى تلك اللوحة التي أصبحت من ديكور المقهى الدائم، وتظهر كلبين يلعقان دماً على أرضية الغرفة التي سجّي فيها نعش هنري الثامن، أقوى ملوك أوروبا في زمنه.. ففي الموت تتساوى، على ما يبدو، الجثث بالنسبة للكلاب.

المساهمون