إسرائيل واتهامات العنف الجنسي

اتهامات العنف الجنسي... إسقاط وتبرير للتوحش الإسرائيلي

13 ديسمبر 2023
+ الخط -

تستمرّ دولة الاحتلال في حرب الإبادة على الفلسطينيين، مستخدمة اّليات الدعاية، لتبرير العدوان، المدعوم أميركيا، ويدار تحت شعار محاربة الإرهاب، وتبذل واشنطن كل ما في وسعها، دعما ماليا، وجسرا جويا حربيا، وتسويقا إعلاميا سردية تنتصر لإسرائيل، بوصفها تمثل قيم الحداثة في منطقةٍ تنتمي للماضي المتوحّش، نقيضا للحضارة. وفي السياق، تأتي ادّعاءات ارتكاب المقاومة عنفا جنسيا خلال عمليّة طوفان الأقصى (ضد النساء والأطفال والرجال) وضد الأسرى الإسرائيليين لاحقا. يبدو أن هذه الاتهامات ستكون مُرتكزا لحملة تشويه للنَيل من عدالة القضية الفلسطينية، حيث بدأ يمارس خلالها الابتزاز على مستوى دولي. يظهر جانبٌ من ذلك، في خطاباتٍ عدّة، منها قول نتنياهو في إدانة للمنظمات الحقوقية "هل أنتم صامتون لأن الاعتداء وقع ضد نساء يهوديات؟"، وأيضا، خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي طالب بإدانة "العنف الجنسي لإرهابيي حماس بقوة، ومن دون مواربة".

دوما، تحاول إسرائيل استغلال الآليّات الدولية، وأن تحوز فيها مناصب وأدوارا، وأن تنشط فيها من أجل تأثير فاعل. وبين ذلك، تستخدم اليوم بشكل مكثف القضايا النسوية أداة حربٍ دعائية، حيث عقدت بعثتها الدبلوماسية في جنيف، الاثنين 28 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، اجتماعا بهدف انتزاع اعتراف بوقوع عنفٍ جنسي، وادّعت، امتلاكها أدلّة تجملها، حتى الآن، في العثور على ضحايا عاريات ومشوّهات، وشهود، لكنها لم تعلن عن أدلة ولم تسمح للمنظمات الدولية حتى بالتحقيق، كما تفيد المفوضيّة السامية لحقوق الإنسان.

وهي تركز على روايات شفهية لمسؤولين إسرائيلين، بجانب مقولات عمومية لأطبّاء نفسيين، عن خوف الأطفال المحتجزين، هذا فيما قنابل إسرائيل على غزّة، مكان احتجازهم، ليست مُرعبة لكل سكّانها، ولا تعرف إسرائيل أن رهائنها عرضةٌ للموت والرعب على مدار الساعة كما كل سكان القطاع، الذين يعانون الجوع والعطش ونقص العلاج.

شهادة بعض الأسرى، بجانب مشاهد تسليمهم، أزعجت إسرائيل، ما جعلها تمنع اتصالهم بوسائل إعلامية خلال الهدنة المؤقتة

يقول نتنياهو، إنه سمع قصصا عن اعتداءات وحشية، في اجتماعه مع الرهائن العائدين من غزة، ونشرت وسائل إعلام أن "حماس" أعطت الأسرى، فيتامينات ومهدّئات لكي يظهروا سعداء وهم في طريقهم إلى عائلاتهم (وكأن الرهائن مطلوبٌ أن يحزنوا) بينما منعت حكومة إسرائيل المفرج عنهم من التحدّث لوسائل الإعلام، بعد ما ظهر من طيب تعامل المقاومة مع الأسرى، وتقديم الرعاية والعلاج، حسب ما أمكن، بحسب ما كشفت شهاداتُ بعض المفرج عنهم. وقال بعضهم إنهم كانوا يأكلون مما يأكل عناصر المقاومة، هذا مع الاعتبار أن متطلبات الحفاظ على الأسرى معافين جاء ضمن ظرف ضاغط، وفي ظل حربٍ تتضمن قصفا وتجويعا. ويبدو أن شهادة بعض الأسرى، بجانب مشاهد تسليمهم، أزعجت إسرائيل، ما جعلها تمنع اتصالهم بوسائل إعلامية خلال الهدنة المؤقتة، خوفا من أن تصيب روايات الأسرى أكاذيب تكرّرها إسرائيل، ضمن سردية مواجهة "التنظيم الإرهابي"، الذي يضمّ متوحّشين إسلاميين يغتصبون النساء.

بجانب ذلك، يأتي الادّعاء بوقوع جرائم اغتصاب، وهي تهمةٌ مشينة، تمثل اغتيالا، بعد شهرين من العدوان على غزّة، وفشل إسرائيل إلى حد بعيد لتسويق سردية محاربة الإرهاب. وهنا يوظف الاتهام، ضمن حملة الدعاية المضادّة، أداة جذب التعاطف مع الاحتلال، وابتزاز العالم، بدعاوى العنف الجنسي، كما يستهدف أيضا تشويه المقاومة، ومقارنتها بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أن المطلوب ضمن عملية الابتزاز إخافة العالم من الفلسطينيين، لا التضامن معهم.

وينزع الادّعاء، أولا صفة المقاومة، وسماتها، من بسالة وصمود ومكون أخلاقي، حاز تعاطفا جاوز منطقتنا، وينفي ثانيا، حقّها في الكفاح بالسبل كلها لتحرير الأرض، حيث يبدّل وظيفتها ودورها من حركة مقاومة إلى مليشيات إرهابية تجمع مغتصبين، يمارسون إرهاب "المواطنين الإسرائيليين العزّل". كما يلصق بالمقاومة، ضمن دعاية تمثل حربا إعلامية، سمات التوحّش والبربرية، التي تستوجب استنكار (ورفض) الرأي العام عالميا لها، وضرورة مواجهتها عسكريا، وهنا الدعاية المضادة ضرورة لتكسب إسرائيل التعاطف الذي كانت تحوزه، وبدأ ينحصر عالميا، خصوصا بين أجيال شابة وطلاب وأساتذة في جامعات أميركية وأوروبية، وفي سرديتها تحاول استعادة التعاطف، فتضع نفسها موضع الضحية. وثالثا، يوظف مفهوم العنف الجنسي، والعنف القائم على النوع، والأخير تعريفا متّسعا، ويمثل مظلّة يمكن من خلالها جذب منظمات حقوقية ودولية وتيارات معنيّة بقضايا النساء، لتصطفّ ضد الفلسطينيين ككل، وليس المقاومة فحسب.

يخلط الاتهام الإسرائيلي بين حركات التحرّر والمليشيات الإرهابية، بشكل مقصود، ذلك لوصم الفلسطينيين عموما بالتوحّش المرتكز على التعصّب الديني والجنسي والعرقي

كما يأتي هذا الادّعاء ضمن حملة تبرير الإبادة الجماعية، وظاهرة فيها، عملية الإسقاط السياسي التي تمارسها إسرائيل، حيث تسقط ممارساتها المستديمة، من اغتصاب الأرض، وتدمير البشر والحجر، وانتهاك الحقّ في الحياة، على المقاومة، ولا يُستغرب هنا أن تقول النسوية الإسرائيلية، روث هالبرين كداري، داخل أروقة الأمم المتحدة، إن الاتهام يقلب الإطار التقليدي الذي ينظُر إلى إسرائيل على أنها المعتدي، وإلى الفلسطينيين على أنهم الضحية السرمدية "وهذا يمثل الهدف الحقيقي للادّعاء، بما في ذلك أساليب الإسقاط السياسي والنفسي، وإدانة الضحية ولومها، وتحويلها إلى معتدٍ، بجانب سياسية عقاب جماعي يصل إلى حد الإبادة الجماعية لجزء من السكان عبر القتل، وأيضا إعاقة كل سبل العيش. لمن لم يقتل بعد.

ويخلط الاتهام بين حركات التحرر والمليشيات الإرهابية، بشكل مقصود، ذلك لوصم الفلسطينيين عموما بالتوحّش المرتكز على التعصّب الديني والجنسي والعرقي، هذا ضمن العنوان الرئيسي لسردية العالم الحرّ الذي لا بد أن يواجه "قوى الإرهاب"، وهي ذاتها التهمة السياسة الجاهزة، لكل من لا يتبنّى موقف الاستسلام. أبعِدت، أخيرا، مريم أبو دقة، من فرنسا، بتهمة تمجيد الإرهاب، وهي القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، المنتمية لصفوف اليسار، وليست ضمن قائمة التطرّف الإسلامي!

وأيضا، بإسقاط تهم العنف الجنسي، تتطهّر إسرائيل من تاريخها الدموي، وهي الدولة المقترن وجودها باغتصاب الحقوق بالعدوان والقهر، بداية من مليشيات الصهيونية التي مارست الإرهاب للتهجير والاستيلاء على الأرض، واليوم تتهم الفلسطينيين بما مارسته بالأمس من جرائم. وقبل أيام، وخلال حرب الإبادة، اعتقلت مئات الفلسطينيين، وجرّدتهم من ملابسهم، ونشرت صورهم، بغرض كسر الكرامة، وبين المعتقلين أطفالٌ قصّر، ومسنون وشباب رفضوا التهجير، وظلّوا في الشمال، صامدين في أرضهم، يحاولون البقاء، منهم مدير مكتب "العربي الجديد" في قطاع غزّة، الصحافي ضياء الكحلوت. ومثّل المشهد أيضا عنفا قائما على النوع، إذا ما أردنا فعليا تدقيق المصطلحات، وليس التلاعب بها لأداء مهام وظيفية لخدمة الاحتلال. وهذا التصرف الشنيع بجانب سجل جرائم قتل وتعذيب للأسرى، وأحيانا تفتيش للنساء في الأراضي المحتلة بطرق مهينة. وهذا كله عنفٌ جنسي، اعتادت دولة الاحتلال ممارسته خلال حروبها العدوانية، ليس في فلسطين وحدها.

دولة لم تفارق السلوك المشين، ضمن أنماط عدوان متكامل ومستديم، مصدُره الطبيعة العدوانية لدولة الاحتلال، والأكثر تضرّراً وبرؤية نسوية

وجرائم العنف بكل أشكاله، مارستها مليشيات إرهابية صهيونية، وحين تحوّلت إلى دولة لم تفارق السلوك المشين، ضمن أنماط عدوان متكامل ومستديم، مصدُره الطبيعة العدوانية لدولة الاحتلال، والأكثر تضرّرا، وبرؤية نسوية، واقعية أيضا، هم النساء والأطفال. وهذا موثّق بشهادات أممية، لكن إسرائيل تتجاهلها أحيانا، وتهاجم بعدوانية وقت أزماتها، من يتجاسَر بكشف تداعيات عدوانها، فتمنع إقامة منسقة أممية (لين هاستينغز)، لأنها لم تدِن حركة حماس، وتهاجم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، على تصريحاته، وتطالب باستقالته، بسبب حديثه عن وقوع انتهاكات وعقاب جماعي على الشعب الفلسطيني.

وأخيرا، ليس الحديث هنا عن أعمال عنف جنسي ارتكبتها المقاومة موجّها إلى منظمّات حقوقية وجمهور غربي، وإنما إلى قطاع من الجمهور العربي أيضاً، ويعطي مبرّرات للنيل من قضية الشعب الفلسطيني، بالطعن في أخلاق المقاومة وفصائلها، بوصفهم همجا متوحّشين، ومن بين هؤلاء الذين سيفتحون الملفّ ويديرون ماكينة الدعاية لمساندة الاحتلال، أصواتٌ تدّعي معارضتها "حماس" بوصفها حركة إسلامية متعصّبة. وفي الحقيقة، أولئك أبناء ثقافة الهزيمة، ومنتجاتها، من رموز الثورة المضادّة وشخوصها ونظمها ومروّجي التطبيع. ولو أن المقاومة لم تتضمّن فصائل إسلامية، سوف يقفون ضدها أيضا، لأنهم مع الاستسلام للأمر الواقع والاستفادة منه على قدر ما يمكن.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".