جعجعةُ جامعة الدول العربية وطحنُها

جعجعةُ جامعة الدول العربية وطحنُها

09 مايو 2022
+ الخط -

(1)
هل يمكن لهيئةٍ أو منظّـمة ذات اعتبار أن يصيبها ما يصيب البشر من علل النسيان ومن تهرّؤ الذاكرة، بما يدفعنا إلى الظنّ أنها وصلت إلى حوافّ مرض الزهايمر، فما أدركتْ على أيّ أرضٍ تقف، ولا إلى أيّ سماءٍ تتطلع؟

تعدّ جامعة الدول العربية من بين أقدم المنظمات الإقليمية التي انتظمت في العالم، بعد إنشاء المنظمة الأممية إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. ضمّت في عضويتها يوم إنشائها بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما أحاطت بها شكوك، كونها صنيعة دول استعمارية كبرى مارستْ تسلطاً مُبيناً على بعض بلدان تلك المنطقة. يُعزى ضعف تلك الجامعة، في أوّل سنوات إنشائها، إلى قلة عدد أعضائها الذين لم يتعدّوا العشرة، ما أضعف إرادتها، وأبقاها رهينة إرادة الدول القوية التي خرجت منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا، لم تكن لتلك المنظمة الإقليمية من فعالية تُذكر في التصدّي لترتيبات "سايكس - بيكو"، والتي قسِّمت المنطقة وجزّأتها، كما تقسّم الكعكة على قاضميها. بان ضعف تلك الجامعة بعد ذلك في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، والتي ثبّتت دعائم دولة إسرائيل كياناً مقيماً في قلب منطقة الشرق الأوسط. ثم شهدتْ تلك المنظمة، وهي في بواكير سنواتها، أول معركةٍ لمصر وحقبة الحرب الباردة في سنوات إحمائها، فيما سمي تاريخياً العدوان الثلاثي عام 1956، ثم من بعد الهزيمة العربية في حرب يونيو من عام 1967، ظلّ ملفُّ القضية الفلسطينية معلقاً عقودا طويلة، تحت لافتة الصّراع العربي - الإسـرائيلي، برغم تعدّد الحروب الشرق أوسطية. وعلى الرغم مما جرى الوصول إليه من اتفاقيات مثقوبة ومبادرات خاسرة، من كامب دافيد وأوسلو، وجديدها ما سـمّته إدارة الرئيس الأميركي السابق، صفقة القرن، والتي انتهت بمكيدة ميتة لاعتماد القُدس عاصمة لإسرائيل، وجامعة الدول العربية سـادرة في عجزها، ومثل ترامب كثيرون على قناعة بأن العرب محضُ ظاهرة صوتية.

لم نسمع عن منظمة إقليمية، تعلم حدود صلاحياتها ومصالح إقليمها، فتنبري في وسـاطة بين أطرافٍ والغين في حربٍ ضروس

كان أكثر المراقبين "تـشـاؤلاً" هو من يرى جامعة الدول العربية بناية فوق العشرين طابقاً في قلب القاهرة، على بوابتها ناطور لا يحلّ ولا يربط، يؤجرهُ صاحب الأرض ويقلبه ذات الشمال وذات اليمين، إذ هو الآخر مغلوبٌ على أمره.
(2)
رأيتني أستعيد هذا الكلام، وقد يراه بعضهم قديماً مكرورا، غير أن مردّه هو حراك تلك الجامعة العربية الكسيح، والذي لا يكاد يستسيغه العقل، بل غمض على الناس إدراك الحكمة من ورائه كلية، وحروب المنطقة تترى من حربٍ أولى ثم ثانية وهلم جرا. ثم خرجت علينا جامعة الدول العربية بإيفادها وفداً إلى موسكو التي ظلت والغة في غزوة أوكرانيا إلى الساعة، للسعي، بهمّة عالية، في وساطة في تلك الحرب، فلا تملك إلا أن تعجب العجبَ العُجاب. ذلك صراع يكاد لهيبه أن يأخذ العالم، وبكامل قواهُ الكبرى، إلى حربٍ عالميةٍ ثالثة. هبّت المنظمة الدولية وأقوياء العالم معها لتنبّه جميع الضالعين في تلك الحرب، إلى أن تداعياتها تنذر البشرية بدمار شامل سيفضي بالعالم حتماً إلى محرقة الفناء.

لم نسمع لا في الشرق ولا في الغرب عن منظمة إقليمية، تعلم حدود صلاحياتها ومصالح إقليمها تمام العلم، فترفع عقيرتها لتنبري في وسـاطة بين أطرافٍ والغين في حربٍ ضروس قد تهدّد العالم بالفناء. تلك مهمّة تتعثر أمامها جهود المنظمة الأممية، بكامل هيئاتها ووكالاتها ومجلس أمنها، فلا تجد استجابةً من المعتدي، بل صلفاً وعناداً يواجه إرادة دولية، مثلتها الأمم المتحدة، وفي مقدمتها أقوياء العالم، فما أفلح منهم حتى الساعة. لربما كان الأنسب لمنظمتنا العربية، ومن على شاكلتها من المنظمات، أن تصبّ جهدها لدعم تلك الإرادة الدولية وتشدّ من أزر المنظمة الأممية، غير أنك تعجب، إذ ترى من يمثلون جامعة الدول العربية يسعون إلى التوسط عند موسكو، هم جاءوا من دول عربية امتنعتْ عن التصويت في محفل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو في نظر بعضهم يعد مؤازرة للمعتدي الروسي. يا للوسيط الفاقد الحيدة يمشي إلى وساطته خجولا، بحذاءٍ أكبر كثيراً من مقاس قدميه. هي خطىً مهزوزة لن تنجو، في خاتمة الأمر، من أن تجلب للجامعة العربية تهمة التحيّز لطرفٍ ضد طرف آخر.

تتباين مصالح البلدان الأعضاء في الجامعة تبايناً اقتصادياً وسياسياً بيّناً، مع كلٍّ من روسيا وأوكرانيا

(3)
إنْ عجزتْ تلك الجامعة العربية عن تبنّى موقفٍ موحّدٍ مُلزم يتخذه أعضاؤها حيال تلك الحرب الدائرة في شرق أوروبا، فما الداعي لتحرّك جماعي باسمها؟ أما كان الأنسب أن تتحرك كلّ دولة من بين أعضاء تلك المنظمة، على المستوى الدبلوماسي الثنائي، لتخاطب أطراف الحرب المستعرة، بما يوافق مصالحها ومصالح أيٍّ من الطرفين المتصارعين في تلك الحرب؟ لعلّ أوضح تداعياتٍ تتصل ببلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جرّاء هذه الحرب المشتعلة، قد تُختزل في عاملين: أولهما الحاجة إلى الغذاء، والقمح عند روسيا وأوكرانيا، ثم ثانيهما الحاجة إلى الطاقة، والنفط عند بلدان الخليج. إنّ اضطربت الأحوال الاقتصادية في بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع بلدان عديدة أخرى من تأثير تلك الحرب، فعلى البلدان التي تضرّرت مصالحها بصورة غير مباشرة، أن تسعى، وعلى مستوى العلاقات الثنائية، إلى إزالة ذلك الاضطراب. لن يكون مجدياً الرّكون إلى الدبلوماسية الجماعية، كمثل ما رأينا وزراء موفدين من بعض دول في جامعة الدول العربية المتأثرة، ومن منطلق الحرص على مصالحها الثنائية مع طرفي الصراع، ترفع رايات الوساطة بين روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا. تتباين مصالح البلدان الأعضاء في الجامعة تبايناً اقتصادياً وسياسياً بيّناً، مع كلٍّ من روسيا وأوكرانيا. إنْ استوجب الحرص تحرّكاً دبلوماسياً لحماية مصالح بعض الدول العربية عند كلٍّ من روسيا وأوكرانيا، فالسبيل الواجب اتباعه هو الدبلوماسية الثنائية المباشرة. ليس من داعٍ لإقحام الجامعة العربية، والتي لا تفلح مساعيها عادة، إلا على مستوى الدبلوماسية المتعدّدة الأطراف، لا الدبلوماسية الثنائية.
(4)
ملاحظ أن دولاً عديدة في المنطقة عانتْ اقتصاداتها جرّاء الحرب الدائرة في أوكرانيا، إلّا أنّ واردات مصر من السلع الغذائية تناقصتْ بصورةٍ كبيرة. ذلك ما أحال دولة مقرّ جامعة الدول العربية، في تقدير الكاتب، إلى أن تقود حراكاً دبلوماسياً يسعى إلى احتواء الأثر السالب للحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا على اقتصاد مصر وبعض بلدان المنطقة. ذلك غرض أوضح من ادّعاء التوسّط بين الغريمين في أوروبا الوسطى. لعلّ أوضح ما يعزّز ذلك الاستنتاج ضعف التغطية الإعلامية التي لم يحظَ إلا بالقليل منها وفد الجامعة العربية في موسكو. إنها جولة علاقات عامة لا أكثر. الصورة الفوتوغرافية التي بثتها بعض أجهزة الإعلام هي خلاصة الأمر، وقد ظهر فيها الأمين العام للجامعة إلى جانب وزير الخارجية الرّوسي، ومن حولهما الوزراء العرب، فبدا كأنّ الأمين العام هو رئيس وفد الوزراء العرب، فيما الرجل موظفٌ لديهم وهم من عـيّنوه. وليسَ ذلك الجانب البروتوكولي بالأمر المهم، فعبرة الأمور بخواتيمها. لقد أنهَـتْ الجامعة مهمتها في موسكو، فكانت جعجعة بلا طحن، أو هيَ لزوم ما لا يلزم.