حروب عربية متنقلة

حروب عربية متنقلة

03 سبتمبر 2022
+ الخط -

اليمن، ليبيا، العراق. حروب يمكن وصفها بـ"الصغيرة" لمن يراها من الخارج، و"الهائلة" لمن ظل حياً خلالها. بدا شهر أغسطس/ آب الماضي وكأنه فسحة بين مرحلتين انتقاليتين، لا مرحلة انتقالية بعينها في هذه الدول: مرحلة ماضية طغى فيها نقاش بيزنطي لا أفق له، ومرحلة آتية مجهولة المعالم مهما أبدت الأطراف السياسية وضوحاً حيالها. تلك الفترة بين المرحلتين لم تكن سوى محطة لملء فراغ، عنوانها الصارخ: "لا يمكن تعايش بندقيتين على أرض واحدة"، مهما بلغت "قدسية" مطلق قضية، ومهما تلاحم حَمَلَة السلاح في خندق واحد.

وإذا كانت طرابلس وبغداد والبصرة وشبوة ساحات قتالية، فإن غزة لم تكن بعيدة عن التوجّس الذي ساد فترة بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي، على خلفية العدوان الإسرائيلي أخيرا على القطاع، وبقاء "حماس" جانباً، في وقت كانت الجهاد تقاتل وحيدة. اتفق الطرفان لاحقاً، لكن الندوب ستبقى ظاهرة، أقلّه في المستقبل القريب. وإن كانت تلك الساحات العربية مشرّعة أمام الرصاص والقذائف، فهذا لا يعني أن بلداناً أخرى، تحديداً لبنان وسورية، بمعزل عنها. في سورية، كل شيء غامض وسائر على وقع الانتظار، من الجبهات العسكرية إلى المسار الدستوري. في لبنان، كل شيءٍ معلّق في "انتظار استحقاقٍ ما"، وهذه المرّة انتخابات رئاسة الجمهورية، مع قرب انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. وإن كان اللاعبون في سورية كثيرين، ويمارسون أفعالاً عسكرية، إلا أنه في لبنان يبدو وكأن الجميع يطارد شيئاً سبقه من دون معرفة ماهيته.

في البلدان التي شهدت اقتتالات "خاطفة"، بدا وكأن مصطلح "العبثية" تجاوزه الزمن، مع نشوء أجيالٍ جديدة من المقاتلين الذين لن يفهموا معنى رمي السلاح جانباً والاحتكام إلى الحوار، مهما بدا قاسياً بالنسبة إليهم. لبنان اختبر ذلك في حربه بين عامي 1975 و1990. فأي "انتصارٍ" في حرب داخلية لا يُعدّ انتصاراً، لأن الشعب، كل الشعب، لا الأطراف المهزومة عسكرياً فحسب، سيغرق في مستنقعات الفقر والبطالة والحرمان من بديهيات العيش. ولا يمكن قياس نجاحات أي حربٍ أهليةٍ بنجاح فئة، تحكم بالنار، فمن يستعبد الناس بالنار سيحترق قبلهم.

الحروب الأهلية القديمة التي انتهت بصياغة سلامٍ مقبولٍ بين الجميع هي الحروب التي اتفقت خلالها أطرافها، بعد الإنهاك، على أنّ لا مجال لإلغاء أحد. والصيغة الأنسب لتمرير كل الفوضى وتوفير الدماء تكمن في القفز من الشارع إلى جلساتٍ حوارية، تنطلق حكماً من دون شروط مسبقة أو وضع خطوط حمراء لا يمكن التنازل عنها. لا يتعلق الأمر باجتياح دولة لأخرى. هناك تستوجب المقاومة بكل أنواعها. ووفقاً لصيغة الأوطان القائمة في العالم حالياً، فإن نسيان حمل السلاح في أي نقاش كفيل بإراحة كل فرد، لا بل تقديم تنازلاتٍ متبادلةٍ تسمح بتطوير قوانين تواكب متغيراتٍ مجتمعيةً وفكريةً وتقنيةً وغيرها.

الآن، يبدو كل ما سبق مثالياً، لكن العالم غير مثالي. وما سيحصل أن من حمل السلاح لن يرميه جانباً، على اعتبار أنه يمنحه إشباعاً داخلياً، ويسمح له بإبراز شخصيته، والقول "أنا هنا". وبالتالي، لن يتردّد في الدفاع عن حمل السلاح بأي طريقةٍ. وهو ما يعني أن هذا النوع من حَمَلَة السلاح لن يخضع سوى لشخص أو طرف آخر يحمل السلاح أيضاً، لكنه أقوى منه في لحظة عسكرية ما.

تلك الحروب مرشّحة للتزايد، مع استمرار حالة التعثر الحواري وغياب أي قوة شرعية قادرة على الحسم أو منع القتال، وهو ما من شأنه تثبيت مفهوم جديد ناجم عن الفراغات بين المراحل الانتقالية، أساسه "عفوية" مواعيد إطلاق النار، بصورةٍ شبيهةٍ بحرب عصاباتٍ في أميركا اللاتينية، لكن مع إسباغ "الهالة" السياسية عليها. وإذا كان هذا الواقع الجديد سيُفرض على العرب، فإن المستقبل سيكون مرعباً.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".