فلسطين المضاءة ولوحة شريف زعب

فلسطين المضاءة ولوحة شريف زعب

16 مايو 2022
+ الخط -

في صباح استشهاد الإعلامية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، كتب لي الصديق الشاعر العُماني محمود حمد قصيدة طويلة، صاغها من وحي اللحظة المؤلمة، كلمات نابضة بحرارة الواقعة، وكأنها تعيد ترتيب خلجات الصدمة شعريا، وفيها "لم تكن شيرين اسما هامشيا/ في دموع القدس/ في معنى انتصار ثابت بالأمنيات/ وعدا../ فلسطين المدانة بالضياء/ وصرخة الحق الرؤوفة بالحياة".
تقدّم فلسطين لنا كل يوم صورا ناصعة بالبسالة، تهزم تلك الصور النمطية البائسة التي تروج عن العرب، بينما صورة الفلسطيني تفرض نفسها بجلاء في العالم، حين قدّمت نماذج ناصعة بالنبوغ والبسالة، منها أخيراً صورة الشاب الفلسطيني شريف زعب الذي ضحّى بحياته في شجاعة نادرة، من أجل أن يرفع الشهيدة شيرين، ويعبر بها، على أمل أن يكون ثمّة رمق أخير من حياة يمكن تداركه.
والقضية الفلسطينية خدمت العرب كثيراً داخلياً وخارجياً، حين نقف، على سبيل التمثيل وليس الحصر، أمام إنجازات (تكاد تكون لانهائية) لمفكر كوني مثل إدوارد سعيد، وشاعر كمحمود درويش ولدت من قريحته شجرة أجيال من الشعراء العرب، إلى الدرجة التي أصبحنا فيها نجد شعراء عرباً شباباً درويشيي النزعة، فضلاً عن عدد كبير من الطلبة الجامعيين الذين يحفظون مقاطع من شعره عن ظهر قلب، وأساتذة جامعيين خصّصوا حياتهم في شرح (وتأويل) قصائد درويش المفعمة بالمرجعيات الأسطورية وتناصات تعكس اجتهاده الكبير ومخزونه الثقافي والمعرفي الثري. أتذكر، في هذا السياق، من سنين بعيدة، زميلاً يمنياً كان يستظهر قصيدة درويش التي مطلعها "أمي تعد أصابعي العشرين عن بعد / وترفو جوربي المقطوع"، وكان من كثرة تكراره لها حفظها كاملة طلبة عديدون منهم كاتب هذه السطور.
وماذا عن إنجازات قاص وروائي ذكي مثل غسان كنفاني، وكاتب مقالات عميقة مفعمة بالإحالات والمرجعيات مثل خيري منصور، وروائي أنيق ذي صبغة عالمية مثل جبرا إبراهيم جبرا، وفنان عبقري نادر مثل ناجي العلي؟ القائمة طويلة جداً في ملء المقال بنوابغ وأعلام عربية جادت بهم أرض فلسطين الخصبة، برزوا بمواهبهم ومجهوداتهم في داخل الوطن العربي أم في العالم فكرا وأدبا وفنا، فكانت فلسطين بذلك منطلقا وخلفية لجميع هؤلاء المبدعين، وكانوا شعلة فكرية وحضارية، فرضت احترامها على العالم. فبماذا يعرف الغرب العرب خارجيا أكثر إلا بفلسطين وقضيتهم الواضحة.
هزم الفلسطينون صورة هزلية للعرب يتداولها الإعلام الغربي أنهم أهل بلدان الغلو والتخلف والفساد، ومرتع لحروب طائفية ضيقة. ولكن فلسطين "المدانة بالضياء" ندين لها بدورنا بهذا الإشعاع الحضاري والإنساني، إذ قدّمت أيقونات سياسية ونضالية، رجالية ونسائية، يضاهون رموز النضال الكبرى في العالم، كمانديلا ولومومبا وسبارتاكوس. ونتذكّر هنا أيقونة النضال الفلسطيني، ياسر عرفات، الذي احتلت صورته، حين توفي، صفحات صحف العالم، وذلك لنصاعة القضية الفلسطينية العادلة التي شرّفت الدول العربية من أقصاها إلى أدناها.
صورة الفلسطيني في العالم مختلفة عن صورة أي عربي، بل أجبرت فلسطين الإعلام الغربي الموجّه على أن يشكل صورة مختلفة مغايرة عن صورة نمطية معتادة عن العرب. ويجب أن نتذكر كذلك هذا التعايش الراقي بين الفلسطينيين بمختلف أديانهم، وهو الوجه الحضاري المشعّ الذي يتمسك الفلسطينيون به، وسط محيط عربي عبثت الطائفية ببعض دوله. وهذا يدل على الوعي الفلسطيني الحاد تجاه قضيتهم، وكان من جديدها الصورة الإنسانية الناصعة، صورة الشاب شريف زعب أمام كاميرات العالم يقدّم إحدى أيقونات البسالة النادرة التي لن ينساها التاريخ. وبذلك تكون صورة العربي من ضحّى بحياته، لكي يحمل مصابة بريئة استهدفها القناص الإسرائيلي عمدا، وهي تؤدّي رسالتها الصحافية، وقد جاء متسللا من خلف جدار لمواجهة موتٍ محدق صريح. سوف تنتشر هذه الصورة في العالم، وتتولد منها دلالات عن البسالة والإنسانية، بل هذه الصورة ثمينة حتى في أقل حدود معانيها بساطة، والمتلخصة في التضحية بالحياة من أجل إسعاف جريح لم يعد جريحاً.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي