كل هذا التوحّش الإسرائيلي

كل هذا التوحّش الإسرائيلي

20 ديسمبر 2023
+ الخط -

المشاهد المريعة التي تتسبّب بها الحرب الإسرائيلية المسعورة على قطاع غزّة، والمذابح والمآسي التي يدفع ثمنها الغزّيون، لا يراها الإسرائيليون، ولا تحرّك ساكناً لديهم، لأن الأغلبية الساحقة منهم، حتى الذين كانوا ينتمون إلى معسكر الوسط أو اليسار، واقعون بصورة كاملة تحت تأثير صدمة هجوم 7 أكتوبر، والدعاية والسردية الإسرائيلية الرسمية التي تعظّم من حجم ما جرى، وتطالب بإنزال أشد العقاب بمنفّذيها الذين لا ينتمون إلى فئة البشر. تُضاف إلى هؤلاء فئة واسعة تنتمي إلى التيار الديني اليميني القومي المتشدّد الرافض وجود شعبٍ فلسطينيٍّ في الأساس، ويعتبر ما جرى في 7 أكتوبر نتيجة السياسات الإسرائيلية الخاطئة في التعامل مع سكّان القطاع ومع حركة حماس. والأهم من هذا كله أنه لا وجود لأبرياء في غزّة، والكل متورّط، والكل ضالع في أعمال "حماس"، لذا على شعب غزّة تحمّل قرارات زعاماتهم، ودفع الثمن الباهظ، فهم مسؤولون عمّا جرى.  
والراهن اليوم وجود إجماع وسط الرأي العام الإسرائيلي، باستثناء أصوات قليلة هنا وهناك (جدعون ليفي وعميره هاس وغيرهما في صحيفة هآرتس)، على اعتبار جميع الغزّيين شركاء في ما ارتكبته "حماس" بصورة "إيجابية" أو "سلبية". وحتى النساء الغزّيات هنّ أمّهات مقاتلي "حماس" وزوجاتهم وشقيقاتهم، وبالتالي عليهن دفع الثمن. أما الأطفال، فلا وجود لهم في الحديث الإسرائيلي العام، هم تفصيل في مشهد لا يعنيهم ولا يثير فيهم أي مشاعر. في عيون الإسرائيليين، الأطفال في غزّة جزء من هذا الواقع "المتوحّش" الذي أوجدته "حماس"، وهم ضحاياه، وليسوا ضحايا التوحّش الإسرائيلي. 

كُثر من الجمهور الإسرائيلي ضد وقف إطلاق النار ومع تدمير آخر مبنى في شمال القطاع

هذه الموجة من التشدّد الديني المتطرّف المطالب بمزيد من استخدام القوة والعنف في الحرب على غزّة منتشرة أيضاً داخل الجيش، سيما في سلاح البرّ، حيث تجتاحه موجة دينية قومية مع دعوات إلى الانتقام والقتل، وإلى تجديد الاستيطان في غزّة، وصلوات جماعية يرعاها الحاخامات. يحاول الجنود المتديّنون، منذ بداية هذه الحرب، إبراز وجودهم بشتى الوسائل، من خلال اللهجة الاستفزازية الدينية الانتقامية الكارهة للفلسطينيين، فإذا كان على الجيش أن ينتصر في غزّة، ففي رأيهم لا يمكن أن يتحقّق هذا فقط بالقضاء على "حماس"، وتجنّب إلحاق الأذى بالأبرياء، إذ لا وجود لأبرياء، ويجب استخدام وسائل قتل أكثر عنفاً، وتسوية غزّة بالأرض، حتى يخرج من بقي من السكان وهم يحملون العلم الأبيض.
وفي مقابل هذا التجاهل والعمى الإسرائيلي المطلق حيال مآسي سكان غزّة، تظهر حساسية المجتمع حيال الجنود الذين يسقطون يومياً في المعارك في القطاع. بدأ مشهد نعوش الجنود الإسرائيليين الذين ازداد عددهم في الأيام الأخيرة، وصورهم التي تنشرها الصحف على صفحاتها الأولى، يثير تساؤلات وتململاً، خصوصاً في وسط اليمين الديني القومي المتشدّد، ليس احتجاجاً على استمرار الحرب، بل طلباً لمزيد من استخدام القوة والعنف من خلال القصف الجوي والمدفعي الشديد لحماية تقدّم الجنود على الأرض، وعدم الرضوخ للمطالب الأميركية بعدم المسّ بالمدنيين. وفي رأيهم، رضوخ قيادة الجيش الإسرائيلي لضغوط الأميركيين بشأن عدم المسّ بالمدنيين وراء "كارثة" الشجاعية، كما سمّوا قتل جنود إسرائيليين جنودا أسرى. هؤلاء وغيرهم كُثر من الجمهور الإسرائيلي ضد وقف إطلاق النار، ومع تدمير آخر مبنى لا يزال قائماً في شمال القطاع، حتى لو أدّى هذا إلى قتل مختطفين. وبحسب قول حاخام "إذا كان رئيس الأركان غير قادر على إخبار رئيس الحكومة بأنه غير مستعد لتعريض حياة أي جندي للخطر بذرائع إنسانية زائفة وضغوط خارجية، عليه أن يستقيل".

التوحش الإسرائيلي ليس محصوراً في أداة الحرب العسكرية، بل هو منتشر في عقول (ونفوس) كثيرين من المتطرّفين في إسرائيل اليوم

أمام هذا المشهد من التطرّف الديني واليميني المسعور في إسرائيل، تبدو دعوات المسؤولين الأميركيين المسؤولين القادة الإسرائيليين إلى تغيير نمط القتال في غزّة، والانتقال إلى مرحلة العمليات الدقيقة والاستهدافات المركّزة وتجنّب إلحاق الأذى بالمدنيين، منقطعة تماماً عن الواقع الذي يدور فيه الصراع الحالي، فالتوحش الإسرائيلي ليس محصوراً في أداة الحرب العسكرية، بل هو منتشر في عقول (ونفوس) كثيرين من المتطرّفين في إسرائيل اليوم.
ألا يدرك المسؤولون الأميركيون اليوم أن لا قيمة فعلاً لمطالبتهم بعدم المسّ بالمدنيين في غزّة، عندما يواصلون دعمهم العملية العسكرية الإسرائيلية التي تهدف إلى إطاحة "حماس"؟ ألا يسمعون ما يقولونه في إسرائيل بعدم وجود "أبرياء" في غزّة، أم أنهم يقولون ذلك لإراحة ضميرهم لا غير، والتهرّب من مسؤوليتهم حيال استمرار حرب الإبادة التي يتعرّض لها المدنيون الغزّيون، رجالاً وكهولاً ونساء وأطفالاً، بدعم أميركي سافر سياسي ومالي وعسكري؟

رندة حيدر
رندة حيدر
رندة حيدر
كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
رندة حيدر