نحو إعادة توجيه دفّة السفينة الفلسطينية

نحو إعادة توجيه دفّة السفينة الفلسطينية

15 يونيو 2023
+ الخط -

عندما يعلو الموج ويشتدّ النوء، ويسوء الوضع كثيرا، فإن أول ما يفعله ربّان السفينة المكتظة بالركاب، ومن دون تردّد، المبادرة إلى إعادة توجيه الدفّة بعيداً عن منطقة الأعاصير، وأخذها من ثمّة إلى مكانٍ آمن قدر المستطاع. وليس من شك في أن أهم ما يطالب به الركابُ القبطانَ، وهم يشاهدون العاصفة الهوجاء تحفّ بهم من كل صوبٍ وحدب، العمل على تأمين سلامتهم، والحفاظ على حيواتهم في تلك اللحظات العصيبة، وتأمين سبيل النجاة كيفما اتفق، إلى أن تنقضي المحنة، وتلوح لهم اليابسة عن قرب، وبعد ذلك لكلّ حادثٍ حديث.

وأحسب أن ما تمرّ به الحالة الفلسطينية اليوم من أوضاع، أقلّ ما يمكن وصفها، بصراحة جارحة؛ أنها أوضاع ليست على ما يرام، حتى لا نقول إنها بالغة السوء، حالة تحاكي حالة أولئك الركاب القابعين على ظهر سفينة تحاصرها الأعاصير، وتطبق عليها الأخطار من كل ناحية، وبالتالي، فإن أكثر ما يتمركز في العقل الجماعي لركّابها القلقين على أنفسهم من الغرق، هو النجاة من كارثةٍ شبه محقّقة، تتراءى لهم بأم العين، وتُحدق بهم أينما التفتوا على الجانبين.

ذلك أن ما يمور به المشهد الفلسطيني الراهن من أخطار، وما يسودُه من استعصاء واحتقان تجلّ عن الوصف، إلى جانب مظاهر أخرى لا تسرّ سوى الأعداء، وما يحيط بهذا المشهد من متغيّرات، جلها خارج نطاق التحكّم والسيطرة، هي أبلغ قولاً من كل ما لهجت به ألسنة الركاب على ذلك المركب، عندما وجدوا أنفسهم سكارى وما هم بسكارى، فوق اللجّة الزرقاء، يواجهون احتمال الغرق بعيونٍ مفتوحة، ويرون مصيرهم وقد بات قاب قوسين من الهلاك.

ليست هذه لحظة مناسبة لتبادل اللوم بين بعضِهم بعضاً، أو لإلقاء المسؤولية عن كاهل هذا إلى كتف ذاك، وليس الوقت ملائماً لتوزيع الاتهامات عمن أوصل الوضع إلى هذا المآل، الذي بدأت فيه السفينة، وهي متهالكة أساساً، تشارف على الغرق التدريجي، وتهوي إلى القاع، إذا لم يتم تدارك الموقف اليوم قبل الغد، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الحال، سيما وأن الجميع يُبحرون في المركب ذاته، ويواجهون المصير نفسه، وبالتالي إما النجاة معاً أو الهلاك سوية.

لا شيء معروض على الفلسطينيين في واقع الأمر، لا حلّ الدولتين أو الدولة الواحدة، ولا الكونفيدرالية، أو حتى الدولة مؤقتة الحدود، ولا غير ذلك من أوهام تسووية

بكلام آخر ولغة مباشرة أكثر، إن مبرّر وجود السلطة الفلسطينية، وهي تلك السفينة المُبحرة في مياه ضحلة منذ نحو ثلاثة عقود، ليس إدارة الحياة اليومية فقط، على أهمية ذلك، وإنما أيضاً تحقيق تقدّم على طريق استكمال المشروع الوطني، كونها ذراع منظمّة التحرير الخاوية على عروشها، ومن ثمّة الوصول بالحالة الانتقالية إلى شاطئ برّ الدولة الحرّة المستقلة، عبر مفاوضات ثنائية مؤسّسة على قواعد (وأحكام) اتفاق أوسلو المأكول المذموم كخبز الشعير، هذا الاتفاق الذي أرسي المداميك التحتية لهذا البناء ذي الطابق الواحد، ونعني به كيان السلطة هذا. وبما أن المفاوضات تقتضي وجود طرفين جادّيْن وراغبيْن في الوصول إلى اتفاق نهائي، عادل ومرضٍ لجميع المخاطَبين به، وحيث إنه لم يعد هناك تفاوض ولا متفاوضون في واقع الأمر، وليس هناك ما يشي بالعودة إلى هذا المسار الذي قوّضته القوة القائمة بالاحتلال عن سابق قصد، فإن من الضروري، والحالة هذه الحالة، مطالبة القوى السياسية الفلسطينية كافة، بالعمل على إعادة ضبط عقارب البوصلة، كشرط أولي مسبق، كي يتم توجيه دفّة السفينة نحو مرسى جديد، والنأي به عن مصيرٍ محتوم.

وبإيجازٍ لا يخلّ بالمعنى المقصود من هذه المقاربة، لم يعد حلّ الدولتين المتفق عليه دولياً، والمقبول إقليمياً على أوسع نطاق، في متناول اليد، وغير قابل للتحقّق إلى أجل غير معلوم، جرّاء تفاقم عمليات القتل والهدم والاعتقال من دون حسيب، ناهيك عن نهب الأرض والتوسّع والاستيطان المحموم، المترافق مع وضع دولي منصرف نحو مسائل ساخنة تستقطب جلّ الاهتمام الدبلوماسي، فضلاً عن وضع عربي مزرٍ على نحو غير مسبوق، بل يزداد تهافتاً مع مرور الوقت.

لا يحتاج الأمر إلى مزيدٍ من الاستفاضة والشرح، إذ يكفي النظر إلى مشاهد الاستيطان، وعربدة القوة التي تقارف بلا كوابح كل الانتهاكات، ورؤية ما يرمي إليه الاحتلال البغيض من أهداف لا تخطئها العين، سواء تجاه الممتلكات أو المقدّسات أو الإنسان، حتى يتأكّد المرءُ على نحو يقيني أن إسرائيل الفاشية، المنتشية بسكرة القوّة، الذاهبة من تطرّفٍ إلى تطرّفٍ أشد، ليست في وارد التنازل عن شبرٍ من الأرض، أو الاعتراف بأبسط الحقوق المشروعة، فما بالك القبول بحلّ الدولتين على أسس الشرعية الدولية.

هنا لا بد من طرح السؤال على النفس، قبل طرحه على الغير، وتقليب الموقف من جميع جوانبه ببعد نظر، ومعاودة طرح السؤال؛ ما العمل، إذن، إذا كانت الدروب التي كانت مغلقة باتت اليوم مغلقة بإحكام، والرهانات القليلة أصلاً أخفقت تماماً، ولم يعد هناك شريك يؤمن بالسلام القائم على العدل، وليس هناك حقّاً ما يضطر بنيامين نتنياهو وأيتمار بن غفير إلى تقديم التنازلات.

إزاء ذلك كله، ينبغي إجراء المراجعات الضرورية في الحال، والقيام من دون إبطاء بإعادة تقويم جادّة وشاملة لمجمل المعطيات القائمة، وإمعان النظر في المتغيّرات المحتملة، بما في ذلك الأوضاع الذاتية المؤسفة بالجملة والمفرّق، ومعالجة ما أصابها من ترهّل، وما سادها من ارتجال، فضلاً عن ضرورة إعادة النظر فيما يحدق بالحالة الوطنية من مستجدّات، وذلك لاجتراح خريطة طريقٍ تفضي إلى تحقيق الحد الأدنى من شروط الحفاظ على المشروع الوطني وحمايته من الاندثار.

لم يعد لدى الشعب الفلسطيني متّسعٌ من الوقت، كي يواصل المراوحة على الموقف ذاته، ويمضغ الكلام نفسه الذي أكل عليه الدهر وشرب

نقول ذلك وفي الذهن أن لا شيء معروض على الفلسطينيين في واقع الأمر، لا حلّ الدولتين أو الدولة الواحدة، ولا الكونفيدرالية، أو حتى الدولة مؤقتة الحدود، ولا غير ذلك من أوهام تسووية لا سند لها في الواقع السياسي الراهن، هذا الواقع الذي تعمل إسرائيل من دون كلل أو ملل على تأبيده إلى أجل غير معلوم، باعتبار أن الوضع الحالي هو أفضل وضع مناسب لخططها الاستعمارية التي تسابق الوقت، ولتطبيق رؤيتها الإقصائية وفلسفتها العنصرية، بعد وصول الفاشية اليهودية إلى سدّة الحكم.

بصراحة أكثر، ومن غير مجملات لا مسوّغ لها بعد اليوم، الفلسطينيون متروكون لمصائرهم من دون إسناد من حليف أو شقيق يعوّل عليه في عتمة هذا الليل الذي يبدو وكأنه بلا آخر. إذ بالكاد هناك من يتذكّر قضية فلسطين، وسط هذه الانهيارات العربية التي يصم دويّها الآذان، ناهيك عن انسحاب النظام العربي من ساحة الصراع، وبالكاد أيضاً يجد الخبر الفلسطيني مساحة له في وسائل الإعلام المنهمكة في ملاحقة أخبار أكثر سخونة. وأسوأ من ذلك كله، أن أهل الدم، أصحاب هذه القضية العادلة منقسمون على أنفسهم، ومختلفون على سقط المتاع، يقدّمون لأعدائهم خدمة مجانية بلا حساب، ويهدمون المعبد على رؤوسهم بعناد وإصرار. ولحسن الحظ، ولمصادفات موضوعية تماماً، سيما بُعد المسافة الفاصلة بين الضفة الغربية وقطاع غزّة، لم تقع حروب دامية بين الإخوة الأعداء، ولم يجر كرٌّ وفرٌّ أمام عدسات المراسلين، الأمر الذي حصر الخلاف الداخلي في نطاق سياسي والحمد لله، وأبقاه مجرّد سجال فظّ على الهواء.

ومع أن كل مناضل فلسطيني يشخّص الداء ببراعة يُحسد عليها، ويعرف اسم الدواء عن ظهر قلب، إلا أنهم يواصلون ترف التنظير ورمي المسؤولية على الغير، وكأنهم كمن يقف على رؤوسهم الطير، صمّ بكمٌ عميٌ لا يفقهون، الأمر الذي هشّم الصورة النضالية الفلسطينية في أعين أصحابها قبل أن يقوّضها لدى الآخرين، وزاد الطين الفلسطيني المبلول بلّة إضافية، جعلته أقرب ما يكون إلى الوحل مع الأسف الشديد، ومع ذلك يستمرّون في غذّ السير بشهيةٍ مفرطةٍ نحو التهلكة، إن لم نقل رغبة في انتحار جماعي.

كلهم يدركون أن الوحدة الوطنية هي مصدر قوتهم الوحيد، وأن داء الانقسام وبالٌ على الجميع، إلا أن قادتهم يقدّمون المصلحة التنظيمية الضيقة على الصالح العام، وكلهم يلعنون هذا الانقسام مع كل طالع شمس، إلا أنهم يتمسّكون به بهذه الذريعة أو تلك، لتبرير هذه الحالة الشائنة وتسويغ استمرارها كل هذه السنين، وهل هناك غافلٌ عن أهمية تعزيز بنية المؤسسات التشريعية وتفعيلها، وتجديد الدماء في عروق القيادات كلها، غير أنه لا يُقدم على خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح؟ ومن منا يعارض خيار المقاومة الشعبية بأشكالها المدروسة، إلا أنه يكتفي بإسداء النصح فقط؟

الدعوة هنا إلى استراتيجية كفاحية فلسطينية جديدة، تتموضع فيها المنظمة والسلطة والحركة الوطنية في سياق أوسع من لعبة المفاوضات العبثية

لم يعد لدى الشعب الفلسطيني متّسعٌ من الوقت، كي يواصل المراوحة على الموقف ذاته، ويمضغ الكلام نفسه الذي أكل عليه الدهر وشرب، ولم تعد لديهم أيضاً رفاهية الانتظار وتمرير الأيام، لعل وعسى أن تقع واقعة كبرى تتغيّر معها المعطيات وتتبدّل فيها المعادلات، ويصبح الصعب ممكناً والممكنات قيد التنفيذ، الأمر الذي يملي، بدل الترقّب والانتظار، إعادة ضبط عقارب الساعة حسب التوقيت السياسي لفلسطين من دون تأخير، وتصحيح اتجاه البوصلة، كي يجري توجيه السفينة المتهالكة نحو بر الأمان من جديد، على الأقل لالتقط الأنفاس، والحدّ من متوالية الخسائر التي تعمل آناء الليل وأطراف النهار.

بكلام جارح، يمرّ الفلسطينيون اليوم في مرحلة انعدام الوزن، الدروب أمامهم مغلقة، الموازين مختلّة والخيارات ضئيلة، كما أن طبيعة المرحلة الحرجة، وتعقيداتها الشديدة، ناهيك عما يجري في المنطقة من انقلابٍ في الأولويات، ومن تحوّلات جد كبيرة، تستدعي إجراء مزيد من النقاشات والمشاورات المفتوحة، ليس عبر المجال العام فقط، وإنما أيضاً من خلال الأطر القيادية المسؤولة وعلى كل صعيد، بهدف الوصول إلى تصور مشترك أهدافه هي:

أولا، الحفاظ على الثوابت الأساسية والمكتسبات الوطنية بكل ثمن، وعدم التفريط بها تحت ضغط اليأس أو الملل، أو بفعل تفاقم مشاعر الترك والخذلان، وفي مقدّمة هذه المكتسبات السلطة الوطنية.

ثانيا، التمسّك بمنظمة التحرير الفلسطينية مرجعية عليا جامعة، وبيتا وطنيأ للفلسطينيين في الداخل والخارج، وكممثل وحيد للشعب الفلسطيني.

ثالثا، العمل بجد واجتهاد، ومن غير ذرائع حقيقية أو مفتعلة، لتوحيد الصف الوطني، مع ما يقتضيه ذلك من مكاشفة ومصارحة لا مفرّ منها.

رابعا، رفع سقف الآمال والحفاظ على التوقعات المتفائلة بغدٍ فلسطيني أفضل، وذلك من خلال تحسين الخدمات المقدّمة ورفع سوية الأداء، وتكثيف التواصل مع قطاعات المجتمع المختلفة.

الفلسطينيون متروكون لمصائرهم من دون إسناد من حليف أو شقيق يعوّل عليه في عتمة هذا الليل

 

وكي لا نطيل الشرح أكثر، إذ ندعو إلى إعادة توجيه دفّة السفينة العالقة وسط برزخ صخري ضيّق، فإننا ندعو، في حقيقة الأمر، إلى إيجاد دينامية جديدة، تتفاعل في إطارها عوامل ومركّبات عديدة، بعضها ذاتي، وهو بيت القصيد في هذه المقاربة، وبعضها الآخر موضوعي يمكن إيجاده من خلال المقاومة الشعبية والاشتباك الحقوقي والإعلامي والدبلوماسي مع الاحتلال، على كل صعيد ممكن، بما في ذلك الداخل الإسرائيلي. وبمعنى آخر، الدعوة هنا إلى وضع استراتيجية كفاحية فلسطينية جديدة، تتموضع فيها المنظمة والسلطة والحركة الوطنية في سياق أوسع من لعبة المفاوضات العبثية، التي لم تعد تخدم سوى مشاريع التوسّع الاستيطاني، ولا تناسب إلا سياسات إسرائيل القائمة على كسب الوقت وإبقاء الأوضاع على حالتها الراهنة.

الفلسطينيون مطالبون اليوم بالتعويل أكثر من قبل على عالم الدبلوماسية ووسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، والرأي العام والقضاء الدولي والمحاكم ذات الاختصاص فوق الوطني، وشبكات التضامن العالمية، فضلاً عن الفضاء الإلكتروني، وهذه كلها عناصر قوة كامنة، إن لم نقل إنها أسلحة ناعمة، لاسيما في هذا الواقع الافتراضي، الذي بات لا يقلّ أهمية وفاعلية عن الواقع الحقيقي.

بكلمةٍ نهائية قد تكون أكثر وضوحاً من كل ما تقدّم، الدعوة هنا إلى تدويل القضية الفلسطينية، لانتزاعها من براثن المفاوضات الثنائية العبثية، إن جرت، أي سحبها من دائرة المراوغات الإسرائيلية ونطاق المبادرات الأميركية الفارغة من كل مضمون حقيقي. ومع الإدراك المسبق بصعوبة هذه المهمة، التي يحتاج إنفاذها إلى التفكير من خارج الصندوق، من الممكن تحقيق ذلك بقدر كبير من بذل مزيد من الجهد الدبلوماسي المتواصل، وتوسيع هوامش المناورة المتاحة، جنباً إلى جنب مع القيام بحملة علاقات عامة فعّالة، ترافقها عملية تصعيد منهجي متعدّد المراحل والحلقات، جزء منه يتمركز في إطار السياسة الخارجية، والجزء الآخر من طبيعة شعبية وكفاح شعبي متعدّد الأشكال والأدوات، على غرار انتفاضة الصلاة على أبواب المسجد الأقصى ومواجهات الشيخ جرّاح وباب العامود، وكل ما من شأنه تأزيم إسرائيل سياسياً وإحراجها دولياً، وتعقيد علاقاتها مع الخارج، وفي نهاية المطاف، تقويض صورتها الزائفة دولة ديمقراطية وحيدة في الشرق الأوسط، فيما وجودها في الواقع العملي الملموس قائم على التمييز وسياسة الفصل العنصري والفاشية الدينية.