الجبهة الشعبية في تونس... هل بدأ التآكل؟

الجبهة الشعبية في تونس... هل بدأ التآكل؟

13 سبتمبر 2016

الناطق باسم الجبهة حمة الهمامي.. تصلب أيدولوجي (8/9/2011/فرانس برس)

+ الخط -
عندما تشكلت الجبهة الشعبية في تونس سنة 2012، وبدأت في تجميع قوى اليسار ومحاولة إيجاد إطار تنظيمي فضفاض يجمع بينها، بدت وكأنها طوق النجاة لبعض الأحزاب والمجموعات اليسارية، لتحقيق مزيد من الفاعلية والتأثير في الشارع السياسي التونسي، خصوصاً إثر نتائجها الانتخابية الكارثية في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2011. وقد تمكّنت الجبهة من تقديم قوائم موحدة في انتخابات أكتوبر 2014، والوقوف وراء مرشح رئاسي واحد، هو الناطق الرسمي باسم الجبهة، حمّة الهمامي. وحققت نتائج مقبولة نسبياً مستفيدة من القانون الانتخابي التونسي القائم على أساس "أكبر البقايا"، ولتدخل مجلس النواب بتمثيلية تضم 15 نائبا.
غير أن حالة التعبئة والتحريض الذي شمل العناصر المنتمية للجبهة، طوال حكم الترويكا، ومكّنتها من بناء إطارها التنظيمي في مرحلة أولى، وخوض الانتخابات بصورة موحدة في مرحلة ثانية، بدأت تخفت تدريجياً، خصوصاً في ظل الفشل التنظيمي والعجز عن بناء هياكل على مستوى الجهات، بل والعجز عن إدارة البنية القيادية للجبهة التي ظهرت وكأنها بصدد نقل تجارب الأحزاب الشيوعية ذات الزعيم الواحد. ولكن، بصورة جبهوية.
وربما كانت هذه الانتقادات الموجهة إلى الجبهة مما يتداوله المراقبون السياسيون في تونس، لكنه أيضا مما يصمت عنه أتباع الجبهة وقياداتها. لذا، كان من المفاجئ أن يعبر أحد قيادات الجبهة، في تصريح إذاعي معلن، عن نقده أداء الجبهة، وتحديدا طريقة إدارتها وطبيعة خطابها الذي يروجه ناطقها حمّة الهمامي.
فقد صرح المنجي الرحوي (القيادي في الجبهة ) قائلاً إنّ رصيد الهمامي تآكل بسبب تكراره الخطاب نفسه منذ سنوات، متسائلاً: هل سيصوّت له الـ250 ألف ناخب الذين منحوه أصواتهم مجدّدا؟ كما طالب قياديي الجبهة بتنمية رصيدهم، لأنّ لا سياسي منغلقاً يرفض النقاشات يستطيع النجاح. واعتبر أنّ الجبهة الشعبية ليست تنظيماً مبنيّا على الديمقراطية.

والواضح أن هذا النقد يحيل إلى مشكلتين: العجز عن تحويل الجبهة إلى تنظيم حقيقي فاعل ومهيكل، من جهة، وحالة التصلب الإيديولوجي والخطاب المتكلس الذي تقدمه للناس على لسان ناطقها الرسمي حمّة الهمامي، من جهة أخرى. وعلى الرغم من أن هذا النقد لا يخلو من وجاهةٍ، وهو من قبيل المراجعة الضرورية في الأحزاب الديمقراطية الحقيقية، غير أنه، في حالة الجبهة الشعبية، يشكّل خروجا عن المعتاد، وهو أمر نجد صداه في ردود الأفعال المتشنجة التي أبدتها قيادات جبهوية، خصوصاً المنتمية إلى حزب العمال (انظر تصريحات عمار عمروسية والجيلاني الهمامي)، والتي اتخذت منحى شخصنة الصراع، وربطه بسعي منجي الرحوي نحو الظهور، وارتباطه خصوصاً برفض الجبهة المشاركة في المشاورات التي سبقت تشكيل حكومة يوسف الشاهد، حيث لا تخفى رغبة القيادي المذكور في المشاركة في العمل الحكومي.
وإذا كان عامل الزعاماتية مما لا يمكن نفيه أو إبعاده ضمن عوامل الصراع المتعدّدة التي تكمن في صلب بنية الجبهة الشعبية، غير أن هذا لا ينفي حقيقة أن الجبهة الشعبية فشلت في إعادة تطوير خطابها ومجاوزة إرثها الإيديولوجي المتكلس، ورؤيتها للمشهد السياسي من خلال ثنائية الصراع يسار/ نهضة، وهو أمر لم يعد مقنعاً في الشارع، ولا يقدم حلولاً واقعية وفعلية للمشكلات اليومية للناس. وفي السياق نفسه، أصبحت الرغبة في تغيير القيادات القديمة المتلبسة بروح الصراع الإيديولوجي الحاد ميسماً عاما لدى ناشطين سياسيين كثيرين، وهو أمر سيكون له مفاعيله في الانتخابات المقبلة، غير أن ما يثير الاستغراب أكثر أن المنجي الرحوي نفسه، وعلى الرغم من انتقاداته الوجيهة للجبهة الشعبية ولقياداتها، هو نفسه ينتمي لحزب (الوطنيين الديمقراطيين الموحد) لا يمارس الديمقراطية في داخل هياكله، فهو يعيد إنتاج قياداته من جديد، وهو ما تجلى في مؤتمره أخيراً (من 3 إلى 5 سبتمبر/ أيلول 2016)، ما يعني أن الأزمة الهيكلية لا تتعلق بالجبهة وحدها، بقدر ما ترتبط ببنية الأحزاب التي تتشكل منها.
تكشف القراءة المتأنية لتطورات المشهد الداخلي للجبهة الشعبية عن عمق الأزمة التي تعانيها، وهي في هذا ليست بدعاً من الأحزاب التونسية، وربما يكمن الفارق في أن طفو الصراعات الداخلية للجبهة على السطح قد يشكل لحظة أولى نحو تطوّرها إلى خلافات حادة وانشقاقات جذرية، خصوصاً إذا لم تسارع الجبهة إلى إصلاح بنيتها الداخلية، ومراجعة نمط خطابها، وتداول المواقع داخل هياكلها، فبغير هذه الإجراءات الحاسمة والضرورية، قد تبقى الجبهة اسماً بغير مسمى، ولتتحول إلى مجرد تجربة للعمل المشترك، خاضتها بعض أحزاب اليسار، لكنها لن تتحول إلى مشروع للحكم، أو فكرة تغيير حقيقي، يمكن أن يقدم حلولا اقتصادية فعلية، في ظل الفشل الحكومي الجاري.
بقي أن يُشار إلى أن استطلاعات الرأي الأخيرة التي تمنح حزبي نداء تونس والنهضة موقع الصدارة في الانتخابات البلدية المقبلة دليل على فشل قوى المعارضة، لأن بقاء هذه القوى في الطليعة يمكن تفسيره بعدم وجود بديل فعلي، يمكن أن يلجأ إليه المواطن، وربما أيضاً وهذا المهم، لاعتقاده أن قوى المعارضة، بخطاباتها الحالية، غير قادرة على تولي الشؤون العامة وإدارة الدولة في المرحلة المقبلة على الأقل، وهو ما يطرح مشكل البدائل الحزبية الممكنة في السنوات المقبلة، والتي ستكون من خارج إطار الأحزاب التقليدية، وبعيدا عن التوجهات الإيديولوجية المغلقة التي لازالت تجتر خطابات عفا عليها الزمن.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.