المسخ السياسي والظاهرة الحزبية في مصر

المسخ السياسي والظاهرة الحزبية في مصر

25 مايو 2018
+ الخط -
ربما ستطرأ علينا فصول جديدة من العلوم السيسية التي لا نعرف لها أصلا، إلا أن يقوم المستبد الفاشي بتحريك الأمور وفقا لبوصلته، وتمكينا لكرسيه وطغيانه. العلوم السيسية هي من فصول علوم الاستبداد، في طبعةٍ شديدة الخصوصية، بعد ثورة مباركة، وانقلاب عسكري عليها حوّل الدولة إلى "جمهورية خوف"، دولة بوليسية تحرّكها الأجهزة الأمنية، في إطار يمكّن لعسكرة المجتمع بأسره، بمؤسساته ونظمه، بحركاته ونشاطه، فيقع كامل المجتمع تحت قوانين العسكر، يشكل العلاقات على مقاسه، وعلى هواه، ويعيد تشكيل مضمون السياسة، عدا عن أنه اغتصب السياسة الحقيقية وقتلها، وجفف كل منابعها، فالمستبد العسكري الفاشي لا يرى إلا نفسه، ولا يقدر إلا كلامه، حتى يظن أنه وحده لا شريك له، هو الذي يدبر الأمر ويسيّر الحياة، ويقوم بكل ما من شأنه أن يشكل طريقته في إطار مقولته الفرعونية الخطيرة "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، فهو الرسول تارة، وهو المخلّص تارة أخرى، وهو أبو العرّيف تارة ثالثة، وطبيب الفلاسفة.
وهو يريد تشكيل الحياة السياسية على مقاسه، ووفق هواه، بعد أن شكل كل الأمور التي تتعلق بشأن المجتمع وحركته المدنية وفق الأوامر العسكرية، ووفق تدريب الشعب، وتطبيعه على حالة من الترويع والتجويع، ليتبعه قسرا ورغم أنفه، مؤكدا أنه مرسل لتعذيبه، وعليهم أن يتحمّلوا. وفق هذه الحال، لا تختلف رؤيته للحياة الحزبية عن تلك الرؤى العامة التي شكّل فيها أجهزة الدولة وفق مقولة "كأن" التي تحولت مع هذا الانقلاب الفاشي إلى "مؤسسات الضد" التي تقوم بكل ما من شأنه ضد وظائفها، ونفي جوهر أدوارها، فالأمن لا يقوم إلا بالترويع والتفزيع، والإعلام لا يقوم إلا بالإعلان والكذب والتزييف، ولا يقوم القضاء إلا بكل ما من شأنه تكريس سياسات الظلم والإجحاف، لا العدل والإنصاف. والبرلمان لا يقوم بالرقابة، لكنه يقوم بإسناد المستبد، فيما يطلبه من تشريعاتٍ ليبطش بها، ويشكل علاقات جمهورية الخوف في سياق تكريس شبكات الاستبداد والفساد. كل هذه الأمور تجعل من هذه "الطبعة السيسية" للمؤسسات مسلكا ونهجا في ظل هذا الحكم الفاشي، فتكون الظاهرة الحزبية ضمن هذه المسارات التي يُعاد تشكيلها لمتطلبات المستبد الأوحد والمنظومة الفاشية وعسكرة الحياة المدنية والسياسية.
نقول هذا بمناسبة التصريحات المبكرة نسبيا على لسان المنقلب عبد الفتاح السيسي، حينما طلب بضبط حالة التعدّد تلك، وإدماج الأحزاب السياسية مع بعضها بعضا، مستغربا حال التعدّد، لأنه 
لا يفكر بأي حال إلا في مسار الواحدية والاستيعاب القسري وتشكيل الحياة المدنية على قاعدة الأوامر العسكرية، فيعيد صياغة المجتمع ومفهوم السياسة على نحو مختلف، فهو لا يريد ذلك التعدّد الذي يضاهيه بمعاني الفوضى، حسب نظرته العسكرية في الضبط والربط والتحكم، وحالة التدرّجية في رتب الجيش وإنزال الأوامر وتشكيل العلاقات. ومن هنا، فإن إدماج الأحزاب وتوحيدها هو الشأن المناسب للمعسكر السياسي، كما يراه السيسي، ولا يجد في الظاهرة الحزبية التي تقوم على التعدّد والتعقد والتمدد استثناء من ذلك، بل يجب أن تدخل في "مفرمة" الواحدية التي لا يرى لها بديلا، وعلى الآخرين أن يشكلوا أنفسهم وفق مراده وقواعد طغيانه.
يُقال هذا هنا في إطار ذلك الإعلان من جانب حزب عريق، يمت في نشأته القديمة في طبعته الأولى إلى الحقبة الليبرالية في مصر، فيما قبل انقلاب يوليو 1952، وهو حزب الوفد الذي امتلك عراقة سياسية، وكان له التأثير الكبير في حركة السياسة قبل انقلاب يوليو الأول، والذي جاء بالعسكر في سدة الحكم، ليتولوا بعد ذلك عسكرة المجتمع بأشكال مختلفة. الإعلان عن شخصٍ مثل المتحدث العسكري السابق الذي انضم إلى حزب الوفد، ليكون مساعدا لرئيس الحزب لشؤون الشباب، إنما يشكل بيانا عسكريا بعسكرة الحياة المدنية والحزبية. ولا يُنسى أن الشخص الذي مثل "الجوكر" بالنسبة لقادة العسكر هو نفسه الذي دخلوا به إلى إعادة تشكيل المجال الإعلامي، فترأس مجموعة قنواتٍ كان هو على رأسها، يحدّد سياستها، ويبشر بالإعلام الجديد، تحت هيمنة العسكر بشكل مباشر، هو الشخص نفسه الذي دفع به إلى حزب الوفد، ليفتتح بوابة عسكرة الحياة الحزبية على الطريقة السيسية.
ومن المهم في هذا المقام أن نؤكد أنه، منذ الانتخابات القسرية الأخيرة للانتخابات الرئاسية الفاشية، أشار بعضهم إلى ضرورتين:
تتعلق الأولى بضرورة القيام بتعديلات دستورية تسمح للسيسي بمدد غير مقتصرة على مدتين، ومطالبات مبكرة بتعديل الدستور، ليسمح بذلك، حتى أن أحد أساتذة العلوم السياسية المشار إليه بـ "الطريقة الهلالية للعلوم السيسية" قد أوعز إلى ضرورة أن يستمر السيسي، وأن يؤمّن له ذلك بالدستور، ليسمح له وحده لا شريك له، بأن يتولى الرئاسة وسدة الحكم مددا متتالية، وأن يكون ذلك له وحده لا يطول غيره. من المؤسف حقا أن يقول ذلك أستاذ للعلوم السياسية، عرف بتدريسه التحول الديموقراطي، بل أكثر من ذلك، وهو يعرف أن الدستور، هو أبو القوانين، وأن القانون لا يعرف التشخيص والتعيين والتخصيص، فإن القاعدة القانونية، كما درسنا في السنة الأولى في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، في مادة مدخل القانون "أن القاعدة عامة ومجرّدة لا تشخص ولا تعين"، فإذا بـ"عقله السيسي" الجبار، وليس السياسي، يبتكر هذا المعنى في الدستور، ليؤمّن للسيسي خصوصا وحده لا شريك له، أن يتولى مددا رئاسية متتالية، وكأنه لم يدرس القانون، ولم يُدرِّس الدستور، ليعبر عن مداخل النفاق في تشكيل "العلوم السيسية".
أما الضرورة الثانية التي جعلوها ضرورة، كمفهوم "مرشح الضرورة" الذي ابتكره الكاهن 
الأكبر، محمد حسنين هيكل، فإنه أيضا ينتقل إلى ضرورة أن نضبط التعددية ونقيّدها، فاقترح الأستاذ نفسه الذي صدع رؤوسنا بالتعددية وقيمتها والديموقراطية وحقيقتها، ليؤكد أن علينا أن نلغي تلك الأحزاب التي خرجت في "وقت الفوضى"؛ ما يعنيه هذا الأستاذ بوقت الفوضى هو الحالة الثورية التي رافقتها عملية إنشاء أحزابٍ، تواكب تلك الحالة، وتعبر عن الظرف الذي أتاحته الثورة، والذي فتح الأفق السياسي واسعا. وفي هذا السياق، فإن "الطبعة الفاشية للتعدّد السيسي الحزبي" تقوم، في هذا المقام، على صناعة حزبين، يصطنعهما السيسي على عينه، حزب يسنده ويدعمه ويسبح بحمده، وحزب آخر يفترض فيه أن يقوم بمعارضته، وفق قواعد طغيانه في شكل معارضةٍ مستأنسة أليفة، تقوم بذلك الدور ذرّا للرماد في العيون، يقام خصيصا من أجل الغرب الذي يرقب الحياة السياسية داخل مصر، ولإرضائه حتى لا يصدع رأس منظومة السيسي الفاشية بحقوق الإنسان وحريات التعبير.
ومن ثم، نصحه بعضهم، بعد انتخابات الرئاسة، بأن يقوم بهذا الشأن، فسرَّح زبانيته و"صبيانه" ليقوم بهذه العملية في عسكرة الحياة الحزبية، لتشكل له سندا في التعبئة الجماهيرية في انتخابات هزلية قادمة، إنه "المسخ السيسي" (السياسي) للظاهرة الحزبية، وفقا لـ "طبعة السيسي الجديدة".
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".