ماء زمزم ينقل الفيروس!

ماء زمزم ينقل الفيروس!

21 ابريل 2020
+ الخط -
"الإنسان حيوان ذو تاريخ"، أحد ألطف التعريفات التي حاولت رصد الفرق الدقيق بين الإنسان والحيوان، وهو تعريفٌ ساقه أحمد بهاء الدين في مقدمة كتابه "أيام لها تاريخ"، ورأى أن الحيوان يأكل ويشرب ويضحك وينام، وأحيانا ينطق، ويعقل، بدرجات، لكن الفرق بينه وبين البشر أنه بلا تاريخ، فالأسد يعيش كما عاش أقرانه منذ آلاف السنين، والفأر يجري اصطياده بالطريقة نفسها، منذ زمن بعيد، مصيدة وقطعة جبن، لن يتعلم الفأر من سوابق اصطياد آبائه وأجداده، ولن يرى في مشهد الاغتيال سوى قطعة الجبن، ولسان حاله يقول: من خدعنا بالجبن انخدعنا له.
يطرح فيروس كورونا أسئلة يتصوّرها بعضهم جديدة، العدوى، والعزل، والموت وعلاقته بالأسباب، والتفسير الديني للفيروس، والمساجد ومشروعية إغلاقها، وهي أسئلةٌ جرت مناقشتها مئات المرات، عبر مئات النوازل والكوارث والحروب والأوبئة والطواعين والأمراض المعدية التي تعرّض لها العرب والمسلمون، بل والعالم من حولهم، على امتداد التاريخ، منذ "عمواس"، الطاعون الأشهر في تاريخ المسلمين، الذي أصابهم في زمان الفاروق عمر بن الخطاب، ومات بسببه صحابة كثيرون، مرورا بالطاعون الجارف في زمن عبد الله بن الزبير، وطاعون الفتيات، وطاعون مسلم بن قتيبة، والطاعون الأعظم، وغيرها من الأوبئة والطواعين التي لم تستثن زمنا، ولا مكانا، ولا أصحاب ملّة أو دين أو جنس أو طبقة، من الموت أو الإصابة.
مرّ المسلمون بكل التفسيرات التي نشهدها اليوم، والتي لم نشهدها، فسّروا الوباء بأنه غضبٌ من الله، وبأنه وخزٌ من الجن، وبأنه من عمل النجوم والأبراج، كما لم يعدم المسلمون من يفسّرون وفق رؤية علمية، طبية، ويقترحون التدابير الوقائية اللازمة، كل ذلك رأيناه، وعرفناه، وراكمناه تاريخا مكتوبا، منشورا، محققا، وعلى الرغم من ذلك لم يؤثر، بما يكفي، في مجمل نقاشاتنا، اليوم، حول كورونا.
يروي الطبيب نجيب محفوظ، أحد أشهر الأطباء المصريين في النصف الأول من القرن العشرين، في مذكّراته "حياة طبيب"، عن تجربته مع مقاومة وباء الكوليرا، في عام 1902، حيث ظهر الوباء بين الحجاج في مكة، وقضى على الألوف، فلما عاد الحجاج إلى مصر، خضعوا للحجر الصحي في سيناء، واتخذت احتياطاتٌ دقيقة، ولكنها لم تمنع تسرّب الكوليرا، فقد ظهرت في قرية من قرى الصعيد، تسمى موشا. كان عمدة القرية بين الحجاج العائدين، قضى فترة الحجْر الصحي، وذهب إلي قريته ومعه عشر صفائح مملوءة بماء زمزم، جاء بها هدية للحبايب من أهل البلد، وكانت زمزم في تلك السنة قد لحقها ميكروب الكوليرا، ولم ينتبه العمدة، كما لم ينتبه أطباء المحجر الصحي، فسمحوا له باصطحاب الماء، فأخذه الأهالي، وشربوا، وصبّوا منه في آبارهم للتبرك، فجاءتهم الكوليرا وحصدت أرواحهم حصدا.
لم ينتبه العمدة، وهو على حظٍّ من الثقافة، كما يصفه محفوظ، كما لم ينتبه أطباء المحجر الصحّي، انحاز الجميع إلى مشاعرهم الدينية، الساذجة، ولم ينتبهوا إلى أن القيم المعنوية للأشياء لا تفقدها صفتها الدنيوية. مرّ الفيروس من ثقوب تصوراتهم الرومانسية، ومات آخرون، لا ذنب لهم. لقد تحدّى المشركون النبي "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمّن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه"، وكان من الممكن أن يأتيهم النبي بما طلبوا، فيفحمهم، وينتهي الأمر، لكن السماء أجابت: "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا؟!، فنبوّة محمد لا تنفي بشريته، وإلهية تشريعاته، لا تنفي بشريتها، بل إن الآيات نفسها أخبرتنا أن القراءة غير البشرية للدين هي قراءة المشركين، وليس المؤمنون: "وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا؟! فالبشرية والدنيوية والعلمية ليسوا نقائض للإيمان، إنما الخرافة والعبث والدروشة.