مهلًا يا غزّة

مهلًا يا غزّة

15 أكتوبر 2015
مهلًا يا غزّة (فرانس برس)
+ الخط -

ما باليد حيلةٌ أمام الدم، ولا للكلمة مقام! الاحترامُ البالغُ والتحيّة الساكنة الوقورة هما الموقفُ الوحيدُ الذي يليقُ في حضرة باذلي الأرواح!


غزّةُ كانت على العهد والموعد كعادتها، خرج شبابُها يؤازرون إخوتهم في الضفّة المنتفضة، ويشاركونهم معركة الحجارة والسكّين، وعلى مقربةٍ من نحال عوز حيثُ مرّغ شبابُ نخبة المقاومة أنوف جنود الجيش الذي لا يُقهر على مرأى من العالم ومسمع، استشهد ستة شباب في عمر الزّهور في ساعةٍ من نهار!

ليس لنا إلا الترحّم على الشهداء، والتغنّي ببطولاتهم، غير أنّه لا بأس بقليل من النظر والمراجعة!

كان ردُّ الفعل الصهيونيّ مبالغًا فيه، ومثيرًا للرّيبة والتساؤل، فعلى حدود غزّة، يصعب - إن لم يكن مستحيلًا - أن ترى الجنود الصهاينة وجهًا لوجه! لا ترى إلا جدرانًا عالية، وأسلاكًا شائكة على عدّة مراحل، تحول بين غزة، وبقيّة فلسطين المحتلة! وكلّما اقترب من الحدود شابُّ قنصه الجنود من على بُعد مئات الأمتار! لا خطر يُشكّله الشباب المقتربُ من السياج، ولا يمكن لحجر واحدٍ أن يصل جنديًا من جنود الاحتلال المتحصنين بعيدًا، لا سبب مفهوم يستدعي القتل بهذه الوحشيّة، وهذا العدد الكبير، ولا يُستبعدُ أن يكون الاحتلال يرغبُ فعلًا في الخروج من أزمته في الضفّة والداخل بافتعال مواجهةٍ في غزة!

في غزّة اليوم صورةٌ واحدةٌ ممكنةٌ للمواجهة، هي الاشتباكُ المسلّح بين المقاومة والاحتلال! لا حواجز، ولا مواقع، ولا جنود، ولا منطق في أن يحملَ شابٌّ قادرٌ على امتشاق البنادق، وحفر الأنفاق، وإطلاق الصواريخ حجرًا لمواجهة عدوّه به! الظّروف في الضفة مختلفة، ومحاولة تطبيقه على واقع غزّة لا يعدو أن يكون تقليدًا ركيكًا!

ينسى الناسُ سريعًا، أو يتذكرون الأحداث ولا يستخلصون العبر! فقبل نحو عامٍ، صيف 2014، عاشت القدس والضفة أيّامًا تُشبه أيامنا هذه، واشتعلت العاصمة الأسيرة، ومدن الضفّة وقراها تحت أقدام الصهاينة في هبّةٍ دون انتفاضة القُدس بقليل، وكانت مرشّحةً للاستمرار والتصعيد، حتّى انخرطت غزّةُ في المواجهة الدّامية، التي سُرعان ما استحالت حربًا غير مسبوقةٍ على غزة استمرّت أكثر من خمسين يومًا، مات خلالها الحراكُ في الضفّة، ولم يعُد له من سبيل!

كان كثيرٌ من الشباب الفلسطينيّ إذ ذاك يرى ضرورة دخول غزّة على خطّ النار، بل بلغت الجُرأة ببعضهم أنه اعتبر تأخّرها أو توقّفها عند نقطةٍ معيّنة دون الحرب الشاملة خيانةً للحراك، وطعنةً في الظهر لأهل الضفة والداخل، غير أنّ الواقع أثبت عكس ذلك، وكان دخولُ غزّة قاتلًا للهبّة الشعبيّة التي طال انتظارها ومضيّعًا لقيمتها!

قلّةٌ من هؤلاء النّشطاء استوعبوا الدّرس، وتعلّموا من التجربة، وأكثرُهم عاد إلى المطالبة والمزايدة! ما يُذهل أكثر أن هؤلاء أنفسهم هم الذين طرحوا بعد الحرب أسئلةً عن جدواها، وقرار دخولها، ودوافعه وأهدافه، وكيفية اتخاذه، إلى آخر هذه الأسئلة المشروعة، لو أنّ صاحبها لم يدفع بكلّ شراسةٍ في الاتجاه الذي ينتقدُه ويتنصّل منه بعد زمنٍ يسير، وسيطرحون الأسئلة ذاتها إذا ما صارت الأمور إلى ما أرادوه وطالبوا به!

لن أخوض في الحديث عن مدى جاهزّية غزّة لاستقبال حربٍ جديدة، والتساؤل عن مستوى استعداد المقاومة لها، والغرق في تفاصيل المعاناة اليوميّة لأهلها بعد الحرب، والتذكير بآلاف العوائل التي تدخل شتاءها الثاني في بيوت الصفيح التي لا تقي شمسًا ولا زمهريرًا! فلنحسب على الأقلّ، ونسأل عن الفائدة المرجوّة، والنتيجة المتوقّعة!

ما الذي سيجري إذا ما انجرّت غزّة إلى حرب حربٍ شاملة، استجابةً للعاطفة الصادقة، أو تحت ضغط المزايدة؟ ستحتلّ صور الصواريخ والطائرات والدبابات الشاشات، وستضيع أخبارُ المواجهات اليوميّة التي تتصدّر المشهد اليوم، أمام دماء عشرات الشهداء والجرحى، والبيوت المهدومة على رؤوس أهلها! من ذا سيلتفتُ إلى خبر خمس إصابات، أمام الحديث عن خمسين شهيدًا مثلًا! ومن ذا الذي سيلفتُه محاولات الطعن أمام الصواريخ التي تدكُّ حيفا، وأخبار أسر الجنود واختفائهم!

إنّ أكبر جريمةٍ - غير مقصودةٍ بطبيعة الحال - يمكنُ أن تُرتكب في حقّ انتفاضة القُدس هو أن يُسحب البساط من تحتها بهذه الطريقة، ولا يمكنُ أن نستبعد لجوء العدوّ إلى هذه الحيلة، ودفعه للأمور في هذا الاتجاه، فالحذر الحذر! والفطنة الفطنة!

حنانيك يا غزّة، قد صحّ منكِ العزمُ، ولستِ بحاجةٍ إلى إثبات شيء! وما زالت البيوتُ التي انتظرت طويلًا إعادة الإعمار شاهدة! فلا تستمعي لمن يطلبُ منك أن تخوضي كلّ عامٍ حربًا!

ووالله لو كان يُرجى من دخولك خيرٌ للانتفاضة وإسناد لأبطالها، لكانت استجابتُك من بعد ما أصابك القرحُ أمرًا عظيمًا، لكنّ الدم الغالي لابُدّ أن يُبذل حيثُ يؤتي أكله، ويؤذي العدوّ، وإلا فهو أغلى عند الله من أقدس بيوته!

مهلًا يا غزّة! بوسعك اليوم أن تفهمي أنّ جهاد المحتلّين رزقٌ أيضًا، وأنّ لكلٍ دورًا، وأنّه ليس لك ولا عليك أن تتصدّري كل مشهدٍ، وتزاحمي في كلّ ميدان، ولعلّه يكفي منك اليوم أن تشتعلي بالحشد والتظاهر والإسناد الإعلاميّ والسياسيّ، حتى لا تضرّي من حيثُ تريدين النفع، وتنكثي ما لبثت الضفّةُ في غزله زمنًا طويلًا!

(فلسطين)

المساهمون