الحرب في شرق أوروبا... في الألفة والخوف والعنف

الحرب في شرق أوروبا... في الألفة والخوف والعنف

05 مارس 2022
عمل لـ نادية الكعبي لينكي
+ الخط -

الأُلفة هي لقاء الطبائع على مستوى القيَم العامّة والمشتركة والتمثُّل وطرائق الفهم والتصرُّف والسلوك، إمّا تشابهاً أو تكاملاً أو هما معاً. إحداها في أمور وأُخرى في أمور أُخرى.

الألفة اجتماع مستدام يساهم في اقتصاد المشقّة والجهد في التواصل، ومن ثَمَّ العفوية والتلقائية وبعض الصدق والثبات النسبي على قيم معيارية تقود التصرُّف، وبها يجري التحكّم في الأفكار والعواطف والسلوك ومراقبتها. وتلعب طرق التنشئة دوراً حاسماً في بناء الشخصية الفردية والاجتماعية وتثبيتها، حيث يمكن الأبوين والإخوة أن يؤثّروا كثيراً في صناعة الأفعال والتفاعلات، كما يمكن مؤسّسات أُخرى، دينية أو تعليمية أو إنتاجية أو سياسية أن تسهم في ذلك التثبيت. والتثبيت يرتبط بالتعوّد والبقاء على مستوى ما ألفناه والنفور من الغريب. فيزعجنا المختلف أو المنافس، فيبدأ الأمر بالحسد ثم الغيبة والحقد والعنف.

العنف، إذاً، ليس بعيداً عن الألفة، الآخر ليس بعيداً عن الذات، وفصل الأخيرة عن الآخر يجري إمّا بالألفة أو العنف.
عندما نتحدّث عن الألفة والعنف، يقف الخوف بينهما يوجه الانفعال والفعل والتصرّف. الخوف من ندرة التساقطات ونفوق القطيع. الخوف من الآخر المهدّد. وكذلك الخوف من أن تضعف الذات الفردية كما الجماعية. نحن لا نألف فقط لأننا نتحابّ وننسجم ونندمج، بل نتآلف أيضاً لأننا نخاف. وقد يتشكّل التعاقد المحلي، وحتى الذي صنع دولاً من جرّاء الخوف والبحث عن ضمان الأمان، أمن الجسد والمسكن والسوق والطرق.

الحرب خوف كبير يبدأ بذريعة واقعية أو خيالية مرتقبة

واتقاءً للخوف نصنع تمنيعات مادية ورمزية، بالفرسان والأسوار والأسلحة، والحكايات والأساطير المؤسّسة، والأعراف والقوانين. ثم نقاتل، الحرب خوف كبير يبدأ بذريعة واقعية أو خيالية مرتقبة، أو حتى بحماية ما تحت الغيمة بتعبير المنتجع. خوف يطحن ما أُعد لسنوات، وحتى لو انتصرنا يبقى هناك خوف عودة انتقام المنهزم، فنحاول ضبطه ووضع حدود لفعله بالمعاهدات وكلّ أساليب تكريس الخضوع.

القبيلة، كما الدولة، تعيش على الخوف وتقتات منه، وتجعل من الغزو وردّ الغزو أسلوب حياة وشرط وجود. الخوف أصل تأسيس القرابات بالدم والعصبية والأحلاف والحماية والتحكيم.

حتى الحب نفسه خوف، خوف من الوحدة وعدم التقدير. والمسؤولية الجنائية الجماعية والفردية خوف، والعنف المشروع للدولة خوف، والولاء وكلّ أشكاله خوف، والتحالف ملء الثغرات.

هذه أرضية تصلح لأن نقرأ بها حرب الروس على أوكرانيا. هي حرب اختلاف ألفات، ألفتين على الأقل، إحداها ليبرالية راكمت التدبير اليومي للمال والسياسة والإعلام، والقوة، وحتى الشر. تدبير متقدّم في كلّ شيء، في الجامعة والحياة اليومية، والتدخّل في أمور العالم ولو بتدمير شعوب ومصالح مغايرة، متى كانت هناك مصلحة. الشخصية الغربية وظّفت الخيال والفهم للدفاع عن المصلحة وبدربة فائقة.

ألفة أخرى في شرق أوروبا، هي أصلاً متخلّفة في الحضارة وفي التدرّب الفائق على تدبير المال والسياسة والاجتماع، لكن نظراً لمنطق الدولة - الأمّة، فهي استطاعت أن تشكل ندّاً حقيقياً طوال مدّة ليست بالهينة، هي مدّة الحرب الباردة، ومارست هي أيضاً شروراً على شعوب مستضعفة.

لا يمكن تفسير مثل هذه الحروب بأيّة مقاربة أخلاقية

لكن وبحنكة تدبير السوق والمعلومة، استطاعت الليبرالية إسقاط ند قوي، ولو حتى نظرياً، هو الشيوعية. وكان الإسقاط مذلّاً لا يمكن إلّا أن يُنتج ردود أفعال كما النازية والفاشية بعد إذلال الحرب الأولى. فأسرعت دول الشرق الذي كان شيوعياً لتثأر لهزيمتها، الصين بالاقتصاد والإنتاج وسلك المسلك الهادئ والتريّث، وروسيا بالتوجّه نحو علم القوّة والإعداد للندية الحربية كما في أي عدم تكافؤ طويل المدى.

التوجُّه نحو علم الحرب تعبير عن الخوف، الخوف من اجتياح التدبير البارد للأوليغارشيات المتمكّنة من تدبير رأس المال والسوق لمنافسة الأوليغارشيات المحتمية بالدولة والشبكات الريعية. منطقان لا يمكن إلّا أن يتحاربا، هو نوع من النزاع حول البقاء. ولا يمكن تفسير مثل هذه الحروب بأيّة مقاربة أخلاقية. هما أسلوبان لا أخلاقيان يتصارعان من أجل القوّة، والضحية هي الشعوب مرّة أُخرى.

تقليدان متناقضان بألفتين جدّ مختلفتين ومتفاوتتين في التطوّر الحضاري، أحدهما قطع أشواطاً في خلق أسلوب الاعتماد الفرداني على الذات التي تعلّمت الاستفادة من وضع الحرية والتفاعل من أجل إثبات النفس. والآخر يكاد يبقى في مستوى المجتمع التقليدي في الاحتماء بمركزية تراقب كل شيء رغم التطوّر العلمي الصلب والصناعة التكنولوجية المتقدمة.

في النموذج الأول توجد الدولة كفاعل استراتيجي ينسّق بين القطاعات؛ ويرعى الأمن؛ ويفكّر للمواطنين ومصلحتهم حتى بإلحاق الضرر بشعوب أُخرى. دول تخصّصت في تقسيم العمل، الأحزاب تقوم باقتراح المشاريع وتكون محاسَبة على تطبيقها متى وصلت إلى السلطة. مع واقعية حق الأقوى مهما كان الذي وصل إلى الحكم. وتُمارس السياسة بثقافة تحايلية كبيرة تُسمّى التدبير، كما أي تدبير في أي مقاولة. تدبير يستغل العلوم الإنسانية وعلوم الإعلام والتواصل والإشهار.

في الطرف الآخر، تُمثّل الدولة تلك الأقلية القوية بفجاجة أو بنفاق أيديولوجي ديني أو قومي أو حتى وطني.

نحن أمام أسلوبين جدّ مختلفين لأن مستوى التطوُّر جدّ متفاوت، دول وظّفت المعارف، وخاصّةً القانون والتعاقد، وأساليب تبرير الأفعال مهما كانت همجية وبربرية من أجل التمكّن في الرقاب بيد من حرير مهما كانت الأضرار كبيرة وفادحة. ودول تأخذ كل شيء بيد من حديد حتى ولو كان ما تعتقده مصلحة أفراد وجماعات المجتمع.

كل ذلك يضعنا أمام شخصيتين جدّ مختلفتين، الأولى بتقليد التشابه الهوياتي، والثانية بالاختلاف والفردانية. النموذج الثاني يريد أن ينشر قيمه التي تبدو مشتركة بين جميع الناس حتى عُدّت نهاية التاريخ. وهي كذلك من زاويا وغير ذلك من أُخرى. هي كذلك في المراقبة الاجتماعية للدولة من طرف المجتمع المدني؛ وحق الاحتجاج؛ واستقلالية القضاء؛ وفصل السلطات، وتحقيق تحسين جودة التمتّع بالحقوق والتربية المدنية. وهي غير ذلك في أسرار الدولة واستعباد الشعوب الأُخرى، وتوجيه الرأي داخلياً. النيوليبرالية سياسة منافقة لا يمكن فهمها بالبقاء في السطح والملاحظة الساذجة لسلوك الناس اليومي وما ينشره الإعلام. هي همجية مقنَّعة تأتي على الأخضر واليابس وتتفنّن في صناعة الشر في الأرض من حرب وإرهاب وفتن وانقلابات.

غير أنّ الطبيعة الاقتراعية التنافسية للأنظمة الليبرالية تجعل الفضائح تظهر والاتهامات تطفو، والأزمات تتواتر. ومع ذلك فطول تجربتها التدبيرية وحنكتها السياسية، وكذلك الحرية التي تخوّل الإنصات إلى مختلف الآراء تهبها قوّةً في إعادة الأمور إلى نصابها في أغلب الأحيان.

الليبرالية، كما أُسّست فلسفياً، مرتبطة دوماً بالعدالة والبعد الأخلاقي الذي هو الإنصاف ووضع الدولة حكَماً. لكن الأوليغارشيات تعمل دوماً من أجل إفراغ الحرّية من محتواها وجعلها حرية القوي ومصالحه فحسب.

هامش الحرية والعدالة الليبراليّتين يساعد على إغراء الشعوب المتخلّفة عن الالتحاق بركب المجتمعات غير المراقبة بالمباشرة، والتي لا تنتظر الضوء الأخضر من العواصم للتفاعل في الحياة اليومية. هذه هي العولمة في شقّها الإيجابي. غير أنّ الأمر لا يمكن أن يمرّ دون ثمن، لأن مصالح النموذجين جدُّ متضاربة.

أظهرت الليبرالية الغربية بعض الوهن المالي والاقتصادي في أزمة 2008، وبعض الوهن السياسي والحربي في سورية وأفغانستان. الوهن الذي كان ينتظره الشرق ليعلن القوّة، العسكرية خاصة، مستغلّاً ذكرى جراح التدخّل الهمجي للغرب في العراق وليبيا وفي غير ما مكان. الغرب استخفّ دوماً بالشرق ولم يقدّر القوّة الطبيعية والبشرية لنصف قارة أوروبا وكل آسيا، المجال الذي بدأ يستيقظ وبمؤهّلات طبيعية هائلة وبتقليد علمي رصين، وبالقدرة على التعلّم السريع وعدم الألفة مع رفاهية الاستهلاك. تلك الرفاهية التي تتمدّد نحو الشرق شيئاً فشيئاً لتغري بالديمقراطية والفردانية ولو تحت غطاء حقوق الإنسان.

وكما العراق الذي خرج منتصراً من الحرب مع دولة كبيرة هي إيران وشعر بالزهو بغزو الكويت، شعرت روسيا بنشوة قوّة عسكرية نووية اكتُسبت بسرعة ويُراد استعمالها بسرعة أيضاً، حتى لا ينفذ النموذج الأميركي بالعولمة نحو النظام المغلق وينسفه من الداخل قبل الخارج.

خلاصة: الحرب الحالية نفسية واجتماعية وثقافية قبل أن تكون مجابهة مسلَّحة. هي حرب نماذج، بل يمكن القول إنها حرب تفاوُت تاريخي وحضاري. الغرب يستغلُّ السبق الزمني وتقليد تدبير نشر القيم الليبرالية ولو بالتوحش، والشرق الذي بدأ يستيقظ ويحاول البقاء على نظام مغلق ومتخلّف يرى فيه الخلاص.


* كاتب وباحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من المغرب

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون