السعودية: ثقافة الرّكض في دائرة

السعودية: ثقافة الرّكض في دائرة

29 ديسمبر 2014
عبد الناصر غارم/ السعودية
+ الخط -
هناك نظرتان فلسفيتان للوقت، إحداهما تقترح أن الوقت يسير بشكل أفقي، والأخرى تقول إنه يسير على نحو دائري، كأنه يتقدّم في بعض الأماكن من هذا العالم، ويظلّ عالقاً في أماكن أخرى. أو على الأقل، هذا ما يشعر به المرء وهو يقف على ما يحدث في وطنه مقارنة ببقية العالم.

وفيما يسعى الحقوقيون في العالم الغربي لتضمين "الحق في أن تُنسى" بنود حقوق الإنسان، وهو حق المرء في أن يتم حذف بياناته التي من شأنها أو يمكنها أن تضرّ باسمه أو سمعته بعد انقضاء فترة ما من الزمن، يحدث أن يصارع المواطن العربي الموت والدمار للحصول على حقوقه الإنسانية والسياسية الأساسية، أو ما يمكن أن نطلق عليه في المقابل "الحق في أن توجد".

ولو أعطينا جائزة لأبرز الأحداث "الثقافية" هذا العام، لذهبت مناصفة بين الإقفال البوليسي لجناح "الشبكة العربية" في معرض الكتاب في الرياض والمصادرة الروتينيّة للعديد من الكتب الأدبيّة والشعريّة ومنع كتبٍ أخرى، بحجج مثل التعدّي على الذات الإلهيّة أو حتى "الاشتباه بعبارات إلحاديّة". أما الحادثة الثانية التي لا تنسى مما حدث هذا العام فهي الفوضى العارمة التي تسبب بها رجال الشرطة الدينية في مهرجان "الجنادرية الوطني الثقافي" في رد فعل على الرقص البريء الذي قام به بعض الزوار على أنغام الأغاني الوطنية.

إذن، فربما يمكننا القول إن الإنجاز الوحيد الذي يمكن أن يُحسب لنا هذا العام هو غياب فتوى سجن واستباحة دم ومطالبات بالقصاص من مثقف أو كاتب، على غرار ما حدث مع الشاعر والكاتب حمزة كشغري عام 2012، والروائي تركي الحمد في العام نفسه. ولكن هذا الأمر قد يُعزى، على الأرجح، إلى غياب مواد محرّضة، وليس إلى تسامح التيّار المتزمت.

هذه القضايا تبدو منعزلة وبدائية جداً مقارنة بما يحدث مع نظائرها في البلدان العربية، التي وإن لم يتحقق الكثير من تطلعاتها الإنسانية والسياسية، إلا أنها على الأقل في مراحل تشكيل وعي شعبي حقيقي يتسرّب إلى ذاكرة وثقافة هذه الشعوب ويزيد من ثرائها، وإن بالمعاناة. أما بالمقارنة مع بلدان العالم الأخرى، فإن السعودية تبدو وكأنها تعيش خارج النطاق الزمني الذي يعيش فيه ما تبقى من العالم.

لن يكون من المستغرب أن نجد أن الفنون والثقافة بتفرعاتها، تلك التي تنتعش بالإنسان والحرية والمعاناة والكفاح، ضامرة وذابلة، والناجي منها ليس إلا محاولات فرديّة للخروج من هذا الصمت الفنّي المطبق. بالطبع، يُمكن اجترار أمثلة أدبية أو ثقافية نادرة وناجحة ودفعها إلى المقدّمة بوصفها أمثلة على التطّور "الجدير بالإعجاب" والذي يشهده الفنّ والأدب في صحرائنا النفطيّة. لكن الواقع مخالف تماماً، فالمنطقة تشهد فقراً مدقعاً في أشكال التعبير الفني مقارنة بالتطور النّوعي والمذهل في سلوك ومظاهر الاستهلاك الرأسمالي.

ما يحدث في السعودية دليل عملي على أن الفن هو شكل معقد من نمو الوعي الاجتماعي والحس الإنساني، وتدهور الأخيرَين هو مرادف لتراجع الفنون وضمور هذه الثقافة في المجتمع. ليس مستغرباً إذن، على سبيل المثال، أن تكون التجربة السينمائية الجادة اليتيمة في السعودية والتي أطلّت برأسها عام 2012 ورشحت لتنافس على جائزة الأوسكار، هي فيلم "وجدة" للمخرجة هيفاء المنصور المتزوجة من أميركي، والتي استعانت بخبرات شركات إنتاج وتصوير "أجنبيّة"، ليتم عرض الفيلم في كثير من دول العالم باستثناء بلده الأم السعودية التي تخلو من دور العرض. لكنهم يسمّونه إنتاجاً وطنياً، بينما هو أشبه بتخصيب بذرة محلية في مختبرات أجنبية وبأيدٍ عالمية، ليخرج منتجٌ يتيم يوصف مجازاً بالوطني.

يكاد ينتهي 2014 والسعوديون يصارعون هموماً ثقافية لا تليق بالعقد الثاني من الألفية الثالثة، وكأنهم يعيشون داخل مسرحية أفكارها تدور قبل مئتي عام، ومظاهر العيش الترفيّة وحدها تنتمي إلى العصر الحديث، إنها واحدة من أشد الصور تناقضاً وتنافراً وغرابة.


* كاتبة وأكاديمية من السعودية

دلالات

المساهمون