"كوليت" تنتزع "أوسكار": انفعالاتٌ أقوى من التوثيق

"كوليت" تنتزع "أوسكار": انفعالاتٌ أقوى من التوثيق

03 مايو 2021
المخرج أنتوني جياكينو والمنتجة أليس دويارد في "أوسكار 2021" (كريس بيزلو ـ بوول/ Getty)
+ الخط -

في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، حكايات غير منتهية. يعثر كثيرون فيها على ما يمسّ كيانهم الإنساني والأخلاقي والثقافي، فيشتغلون عليه لتوثيقه وتقديمه إلى العالم، درساً في تحصين الذاكرة من الاندثار، والناس من النسيان. اليهود بارعون في نبش حكاياتٍ تؤكّد محرقةً معروفة تفاصيلها وخباياها. لآخرين مصائب جمّة فيها أيضاً، فالتعذيب والتنكيل والتغييب والقتل أمورٌ يُعانيها مقاومو النازيين في بلدانٍ يحتلّونها. أشكال القتل النازيّ متنوّعة. الجُرم واحدٌ.

حكاية جديدة ترويها كوليت ماران ـ كاترين (25 إبريل/ نيسان 1929)، بعد 75 عاماً على حدوثها. تنخرط في المقاومة الفرنسية، كشقيقها جان ـ بيار، الذي يُعتقل لاحقاً، ويُرحَّل إلى معسكر اعتقال في ألمانيا، اسمه "دورا"، يُعرف لاحقاً بـ"نوردْهاوزن دورا". المعسكر مصنع عسكريّ نازيّ لصُنع صواريخ V2، يعمل فيه بالإكراه 60 ألف سجين من 21 بلداً، ويُقدَّر عدد الوفيات منهم بـ20 ألفٍ. موت جان ـ بيار (17 عاماً) حاصلٌ في 22 مارس/ آذار 1945، قبل 3 أسابيع فقط على تحريره على أيدي جنود أميركيين.

هذا في "كوليت" (2020)، للأميركي أنتونيو جياكينو (1968)، الفائز بـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقيّ قصير، في النسخة الـ93، المُقامة في 25 إبريل/ نيسان 2021. تبلغ السيّدة ماران ـ كاترين 92 عاماً. تظهر أمام كاميرا روز بوش صلبة، لكنّ انفعالها إزاء مأساتها باقٍ بحدّة وحيوية. رفضها زيارة المكان الألماني لوفاة شقيقها صامدٌ سنين مديدة، لكنّ لوسي فووبْل تحرّضها على ذلك. الشابّة (17 عاماً) مهتمّة بتاريخ الحرب والمقاومة، وتعمل في متحفٍ تاريخي، وتريد توثيق الحكاية، فتُرافق العجوز في رحلةٍ برّية من "كاين" الفرنسية إلى "نوردْهاوزن" الألمانية. الجولة صعبة. الذكريات، رغم قلّتها، ثقيلة الوطأة. التوتّر الغاضب، الذي تُبديه كوليت أمام عُمدة البلدة الألمانية أثناء تكريمه لها، مُثير للتساؤل عن حالةٍ ملتبسة: أهذا توتّر نابعٌ، فعلاً، من ثقل ذكريات قديمة، ومناخٍ مؤثّر، وحكاية قاسية؛ أمْ أنّ اقتناص فرصةٍ كهذه ضروريٌّ، بالنسبة إلى امرأة عجوز فرنسية، تبدو متَعَالية على جارٍ ألمانيّ، يتمسّك بذاكرته بهدف عدم نسيانها، وبمسؤوليته عن أفعالٍ نازيّة يريدها شواهد على معنى الجريمة، يرتكز عليها ألمان كثيرون، في مسارهم نحو المستقبل؟

اللقطة تلك مزعجة. تكريمها نابعٌ من التزام أخلاقيّ ألماني إزاء مقاومة الجرم النازيّ. معسكر الاعتقال في "دورا" غير مختلفٍ كثيراً عن المعسكرات الأخرى، رغم أنّه مصنع صواريخ. الموت فيه متأتٍ من تعذيب ومهانة وإرهاق وانعدام كلّ حسٍّ بشريّ. لكنّ "كوليت" غير متوقّف عند لحظة كهذه، ربما تكون صادقة. معنى انفعال كوليت غامض، كسببه الفعليّ. لكنّ الكاميرا تلتقطه، فتبقى في سياقٍ دراميّ، يريد تصالحاً ما مع ماضٍ أليم.

 

 

الرحلة برمّتها عادية، سينمائياً. المفردات الوثائقية لا جديد في اشتغالاتها، ولا إضافات جماليّة. اللقاءات قليلة، فالأهمّ كامنٌ في كوليت، محور كلّ شيء. الأرشيف القليل متمثّل بأشرطة (بالأسود والأبيض) للمعسكر ـ المصنع، ولأمكنة تُصبح الآن أمثلةً تُذكِّر بالعار النازيّ، فتمنح الألمان اغتسالاً منه، والعالم تنبيهاً إليه. المعلومات المكتوبة بين لقطات مختلفة ضرورية (محطات في تاريخ المعسكر ـ المصنع، أسماء أمكنة وشخصيات، متاحف، إلخ.). المدّة القصيرة (24 دقيقة) منبثقةٌ من صِغر الحكاية، وقلّة عدد صانعيها والشاهدين عليها، واكتفاء الحدث بمقتل مُقاوم فرنسيّ في معسكر اعتقال نازيّ.

تذرف كوليت دمعاً، فالمُصاب كبيرٌ بالنسبة إليها، رغم عيشها مع شقيقها أقلّ من 15 عاماً. لا ذكريات وفيرة بينهما، باستثناء مرحلة قصيرة من اشتغالهما في المقاومة الفرنسية للنازيين. جان ـ بيار (1926)، يُعتَقل عند بلوغه 17 عاماً. بعد عامين، يموت في المصنع. العجوز والشابّة تزوران المكان معاً، وأمكنة أخرى محيطة به، لمعاينةٍ عمليّة، يُفترض بها منح العجوز شيئاً من أثر شقيقها، وإعطاء الشابّة صورة أخرى للذاكرة، أكثر واقعية وحسّية. 24 دقيقة كافية لحكاية مُختصرة في عمر حربٍ. لكنّ موت الشقيق جُرمٌ نازيّ، وفعل المقاومة ـ الذي يلتزمه ـ أساسيّ في تاريخ بلدٍ وأناسٍ.

المأزق الأخلاقيّ غير معقود على الجُرم النازيّ فقط. القيادات الأميركية والسوفييتية (السابقة) والفرنسية تتعاون مع نازيين عاملين في المصنع، بعد تحريره. القيادة الأميركية تمحو آثاراً كثيرة مرتبطة بالمصنع، فجنودها أول الداخلين إليه. الحاجة إلى معلومات ووثائق أهمّ من ذاكرةٍ، تبدو أقوى من كلّ تغييب، طالما أنّ جيلاً تلو آخر يتميّز بأفرادٍ توّاقين إلى المعرفة.

اقتصار "كوليت" على 24 دقيقة نابعٌ من قلّة المعطيات، فجان ـ بيار مقتولٌ في سنّ باكرة، وكوليت تُكمِل حياةً عادية لامرأة، تهتمّ بوالدتها حتى وفاتها، وتعمل في منشآتٍ فندقية. هذا غير واردٍ في الفيلم، المرتكز أساساً على زيارة مؤجّلة منذ سنين، تقوم بها عجوزٌ، تريد تحرير قلبها وروحها من وطأة الألم، فهذا شقيقها، وموته بظرفٍ كهذا قاسٍ.

للدمع حضورٌ، فالعجوز منفعلةٌ، ولوسي متأثّرة، رغم جمال الطبيعة والمكان الألمانيين، في راهنٍ يُصرّ على ذاكرة أمكنة وأناسٍ. لذا، يبدو "كوليت" انفعالياً رغم معطيات التاريخ والوقائع المدرجة في سرده، إذْ يُراد له تأثير عاطفي إزاء جُرمٍ نازيّ، يحضر في ذاكرة وثقافة وعيشٍ، وإنْ بدرجات مختلفة.

ربما لهذا كلّه، ينتزع "كوليت" جائزة "أوسكار" في زمن كورونا، وارتباكات "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" إزاء مسائل حسّاسة، كالأقليات والمرأة والأعراق والماضي، وتخبّط هوليوود، أحياناً، في علاقتها بتاريخ أميركا.

المساهمون