حي ساروجة: حريق يجوب بيوت وأزقة دمشق

حي ساروجة: حريق يجوب بيوت وأزقة دمشق

21 يوليو 2023
ما تبقى من بيت خالد العظم (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -

يروي رئيس وزراء سورية الأسبق، خالد بك العظم، في مذكراته، أنه حضر في صيف 1916 حفلة قران ابنتي أمير محمل الحج الشامي وعضو مجلس الأعيان في الدولة العثمانية، عبد الرحمن باشا اليوسف، في بيت اليوسف الواقع في حيّ ساروجة الدمشقيّ.
في إحدى الليالي التي تقارب مناخ قصص ألف ليلة وليلة، أحيت العرس الأرستقراطي الراقصة والمغنية السورية اللبنانية بديعة مصابني، وكانت في عزّ صباها، مع تخت شرقي من عازفات العود والقانون. وفي إحدى قاعات القصر، أتحفت بديعة الحضور بما كانت تجيده، وهو الرقص الشرقي.
وفي معرض حديثه عن احتفال آل اليوسف، يصف العظم صاحب الدار المضيفة، عبد الرحمن اليوسف، بأنه بدا بين الحضور، خصوصاً النساء منهم، كأنه هارون الرشيد في حرمه، ذلك القصر المرصّع بالزخارف والمزيّن بالموائد التي تحوي ما لذّ وطاب من أطعمة ومآكل، لا تتناسب قطّ مع الحرمان السائد يومها في البلاد، إذ كان صاحب الدعوة أوسع الدمشقيين ثروةً وجوداً.
يفرد العظم صفحات من مذكراته للحديث عن هذا العرس الفخم الذي أحياه عبد الرحمن باشا اليوسف في منزله الكائن في حيّ العقيبة. القصر الذي طاولته النيران فجر يوم الأحد الماضي، وألحقت أضراراََ بالغة فيه، تتجاوز مساحته 2000 متر مربع، ويعدّ من أجمل التحف المعمارية في دمشق، عدا عن أنه أول منزل مدّت إليه الكهرباء في البلاد عام 1907.
جاور بيت آل اليوسف، بيت خالد العظم، ويرجع بناؤه إلى أربعة قرون مضت. نال الحريق أجزاءً منه أيضاً. كان خالد العظم من رجال الدولة السوريّة بعد الاستقلال. ترأس الحكومة أربع مرات، شارك في آخرها في صياغة بيان انفصال سورية عن مصر عام 1961. عند انقلاب حزب البعث على الرئيس ناظم قدسي عام 1963، التجأ إلى لبنان وتوفي هناك بعد سنتين. وينقسم بيته إلى الحرملك الجناح المخصص للنساء والسلملك، وهو قاعة استقبال الأهل والأصدقاء. هذا القسم أصبح عام 1959 مركز الوثائق التاريخية، وحفظ فيه أكثر من خمسة ملايين وثيقة تاريخية يعود عمر أقدمها إلى ما قبل 500 عام. وكغيره من البيوت الدمشقية القديمة، بني الطابق الأول من الحجر، أما الثاني فمن الخشب واللبن، وهي مواد قابلة للاشتعال، ما جعل تاريخ هذه البيوت مرتبطاً بالحرائق.
تتجاوز مساحة بيت خالد العظم 3136 متراً مربعاً، وهو من المباني الأثرية، إذ تحوّل إلى متحف دمشق التاريخي بعد استملاك البيت لمصلحة مديرية الآثار والمتاحف عام 1969. وفي عام 1982، عُقدت أول ندوة دولية عن دمشق فيه.
في تمام الساعة الثالثة فجر يوم الأحد (16 يوليو/تموز)، عاد هذان البيتان العريقان إلى الواجهة مجدداً. وعوضاً عن أن يتصدر خبر تحولهما إلى متاحف وطنية، نالهما حريق ضخم خلّف كارثة معمارية وإنسانيّة. كانت النيران بمثابة الضربة القاضية بعد أن تركت هذه المواقع تتآكل بفعل الزمن.
طاول الحريق أقساماً واسعة من بيت عبد الرحمن باشا اليوسف، إضافة إلى قسم النساء في بيت خالد العظم. في حين صرح مصدر من مديرية الآثار والمتاحف بأن الوثائق لم تتأذَّ، لأنها نقلت عام 2012 إلى مبنى آخر.
في سوق ساروجة الدمشقيّ، على مسافة لا تتجاوز 50 متراً من مقر محافظة دمشق، استفاق أهالي حيّ العقيبة بعد أن أكلت النيران منزلاً دمشقياً قديماً في الحيّ، وامتدت منه إلى منازل ومحال تجارية وورش أحذية. اتسعت رقعة الحريق حتى بيت اليوسف، ومن ثم إلى قصر خالد بيك العظم، بما فيه دار الوثائق التاريخية، ونحو عشرة منازل أخرى.
21 سيارة إطفاء وأربعة صهاريج مياه شاركت في إخماد الحريق. الأضرار، إذن، اقتصرت على الماديّات، حسبما صرح قائد فوج إطفاء دمشق العميد داوود العميري عقب إخماد الحريق. ولكن هل يكفي أن يختتم تصريحه بهذه العبارة حتى يزول القلق؟

وجود مطامع إيرانية للاستيلاء على محيط مقام السيدة رقية في محاولة لإحداث تغيير ديموغرافي في المدينة

في ظل غياب التيار الكهربائي بشكلٍ شبه نهائي عن المدينة، تخلى النظام السوري عن روايته التي اعتاد تكرارها عند نشوب أي حريق يُشك بأنه من فعل فاعل، ألا وهي الماس الكهربائي. في الحريق الأخير، عزت الرواية الرسمية السبب إلى ارتفاع درجات الحرارة وطبيعة المنازل القديمة القابلة للاشتعال، وضيق الشوارع الذي ساعد على امتداد الحريق، وذلك في ظل وجود مطامع إيرانية للاستيلاء على محيط مقام السيدة رقية في محاولة لإحداث تغيير ديموغرافي في المدينة. الوجود الإيراني الذي ترك لنفسه إرثاً من الحرائق في المدينة. نحن أمام مشهد يتصل بالماضي ويعيد إلى الأذهان حريق سوق العصرونية عام 2016، الذي أحال 80 محلاً تجاريّاً إلى رماد، وكانت أرقام الأضرار المالية تتحدث عن نحو ملياري ليرة سورية، إضافة إلى حريق الحميدية في العام نفسه، وحريق باب الجابية عام 2017، وحريق البزورية الضخم عام 2020. والقاسم المشترك بين كل تلك الحرائق، هو أنها محيطة بمقام السيدة رقية الذي تضع إيران يدها عليه. والهدف، حسبما يُشاع، شراء المنازل المتهالكة إثر الحريق بأسعار بخسة.
على الرغم من أن الحريق لم يطاول الأرواح، إلا أنه طمس معالم يمكن اعتبارها من ملامح دمشق التاريخية، لا سيما وأنه اندلع في واحد من أكثر أحيائها حضوراً تاريخياً، وحيّ ساروجة هو أول حي دمشقي بني خارج أسوار المدينة في القرن الثالث عشر الميلادي.
بعد أن تم إنشاء هذا الحي من قبل المماليك، تعرض للتخريب نتيجة صراعات الأمراء في الفترة المملوكية، وازداد الحال سوءاً بعد أن احتل تيمورلنك دمشق عام 803 هـ؛ فأصبحت ساروجة مرتعاً لمنجنيقاته التي كانت تقصف دمشق، ومن ثم ناله ما نالته دمشق من الحرائق التي أشعلها تيمورلنك.
زيّنت قصور السياسيين الذين تعاقبوا على سورية أزقة ساروجة الضيقة. ويعود حي ساروجة إلى عهد الأمير المملوكي سيف الدين تنكز، ونُسب اسمه إلى مساعد وزير المال صارم الدين صاروجة المتوفّى سنة 1342 ميلادية. وصار الحي يُنسب إلى اسمه (صاروجة) بسبب العمائر التي بناها فيه، ومن ثم خفف أهل الشام اسمه ليصبح ساروجة. وفي هذا الحيّ، أقام تجّار المماليك أهمّ صناعاتهم ومستودعاتهم. ولمّا احتلّ العثمانيّون دمشق في القرن السادس عشر، أخذوا حيّ ساروجة من المماليك وطردوهم منه، وصار يُعرف باسم "إسطنبول الصغرى". ومع الاحتلال العثماني، أخذت ملامح الحي تتبدّل، ولكنه ظل محتفظاً بسوقه الكبيرة ومنازله الواسعة وحمّاماته ومساجده الفخمة، وقد سبق أن صنفته يونيسكو في لائحة المواقع التراثيّة المحميّة.
في ساروجة، دُفِن الملك السلجوقي نور الدين الزنكي، وشيد جمال باشا السفاح قصراً له، بالإضافة إلى قصر أول رئيس للجمهورية السورية وأول زعيم ينتخب من الشعب السوري محمد علي العابد. وعن هذا يقول فيليب خوري في كتابه "أعيان دمشق"، إنه في آخر القرن التاسع عشر، سكن ساروجة أغنى ثلاث أسر، العظم والعابد واليوسف. وكان بينها مصالح مشتركة ومصاهرات. بنت الأسر الثلاث قصوراً تعد من تحف دمشق المعمارية، استحالت إثر الإهمال إلى خرائب.

في ساروجة، دُفِن الملك السلجوقي نور الدين الزنكي، وشيد جمال باشا السفاح قصراً له

كثيرة هي الخسارات والتهديدات التي تعرض هذا الحي لها. ولعل أبرزها المخطط التنظيمي المنسوب إلى رجل الانتداب الفرنسي إيكوشار عام 1968، الذي اعتمد هدم أكبر بيوت ساروجة وأجملها ليسلب الحيّ أي معالم تميزه، وليبدو النسيج المعماري باهتاً.
في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، بدأت سلسلة متكررة من الحرائق التي طاولت البيوت التراثية في ساروجة، واشتبه بأنها مفتعلة لغاية الحصول على رخص لبناء عمارات إسمنتية في موقع المنازل المحروقة. وفي بادرة لتحديث المدينة القديمة، عاد مخطط إيكوشار ثانيةً في عام 2007، حين قررت محافظة دمشق تحديث سوق ساروجة من خلال مشروع شارع الملك فيصل، والذي ذهب إلى إزالة السوق واستبداله بمنطقة تجارية متعددة الطوابق. وحينها، أعلنت المحافظة أنها ستحافظ على كل ما هو أثري، وتزيل ما هو عتيق. هكذا، كانت المحافظة على أعتاب أن ترتكب جريمة سلاحها البلدوزرات والجرافات. ويذكر مصدر مقرب من النظام، أن المشروع لا يزال ضمن خطط التنفيذ، إلّا أنه أُجل نتيجة الغضب الذي لاقاه عند الإعلان عنه وإصرار المهتمين بالشأن العام على إيقافه لحماية التراث من الاقتلاع بحجة عصرنة المدينة.

عدا عن ذلك، تبدو منازل الحي القديمة آيلة إلى السقوط، وهي في أغلبها مشيدة على الطراز العمراني الدمشقي، ذي الباحة المزينة بنوافير المياه وشجر الليمون والجدران المرصعة بالزخارف. ولكن أين كانت أعمال الترميم من هذه البيوت ذات الإرث الحضاري؟ فما إن كان يتم الإعلان عن مشروع لترميمها، حتى يتوقف قبل أن يبدأ، ولا سيما أن بيت اليوسف بشكل خاص عانى من إهمالٍ شديد، بعد أن تحول إلى مكبّ نفايات، ونُهبت بحرته الثمينة واستبدلت بأخرى لا تتناسب وأثاث المكان الفاخر، كما طوّقته (إلى جانب قصر العظم) مشاغل الأحذية، حتى باتت هذه المنطقة الأثرية بقصورها تبدو تجمعاً للورش والمشاريع الصغيرة.

كإخوة يوسف، وقف رئيس حكومة النظام حسين عرنوس، ومحافظ دمشق طارق كريشاتي، عقب إخماد الحريق، على أطلال صروح دمشق، متباكين عليها بعد أن صارت رماداَ إثر سنوات من الإهمال والتخطيط الممنهج لسلب المدينة كل ما هو متصل بتراثها الجمالي. وفي بادرة جديدة نحو التشويه، حال بيت عبد الرحمن اليوسف إلى ورقة من أوراق التاريخ.

المساهمون