ربيع الشباب الذي لم يثمر اقتصاديا

ربيع الشباب الذي لم يثمر اقتصاديا

14 مايو 2015
+ الخط -

رغم تقدّم المطالب السياسية (حرية، ديمقراطية، تداول سلمي للسلطة، انتخابات نزيهة..) واجهة الثورات العربية، كان العامل الاقتصادي الاجتماعي المحرّك الجذري لهذه المطالب، إذ كان المهمشون والمقصيون والمسحقون والعاطلون من العمل وسكان الأرياف وهوامش المدن في طليعة المحتجين، بل إن انطلاق ثورة تونس من حادثة البوعزيزي بكل ما يمثله من طبقة مسحوقة تبحث عن الخبز تعتبر مؤشرا واضحا هنا، حيث جاءت الصفعة لتضع الخبز بجانب الكرامة.

كانت الأرقام الاقتصادية التي تعكسها مؤشرات التنمية العربية منذ عقد على الأقل تشير إلى هول ما يعتمل في القاع، إذ تراجعت أرقام التنمية لصالح معدلات نمو وهمية صبّت ثمارها في سلال "المئة الكبار" لتهبط فئات واسعة إلى ما دون خط الفقر، وتتراجع الطبقة الوسطى إلى خط الفقر وما فوقه بقليل، بالتوازي مع تراجع الخدمات التي تقدمها الدولة مع أفول نموذج الدولة التدخلية الرعائية لصالح دولة اقتصاد السوق الذي اتبعته أغلب الدول العربية بعد مسخه، عبر إطلاق التحرير الاقتصادي مقابل بقاء التقييد السياسي، فنشأ اقتصاد "سوء" سحق الطبقة الوسطى وزاد أعداد العاطلين من العمل وهتك الصناعة الوطنية وأحرق ما تبقى من الزراعة، فهاجرت أفواج العاطلين نحو محيط المدن الكبرى، لتنشأ مدن هامشية شكلت وقود الثورات من جهة، و التطرف من جهة أخرى.

الملاحظ اليوم أن المطالب الاقتصادية الاجتماعية (توزيع عادل للثروة، خلق فرص عمل، زيادة مؤشرات النمو والتنمية، زيادة الإنتاجية، إصلاح الاختلالات البنيوية التي تعاني منها اقتصادات الدول العربية..) التي كانت أهم شعارات الثورات طيلة عامي 2011 و 2012 تراجع الاهتمام بها، ولم يتحقق منها شيء يذكر، إذ تقلّصت الثورات ووقفت عند حدها السياسي، دون أن تطال البنية الاقتصادية الاجتماعية، بل أكثر من ذلك زادت سنوات الثورة من التراجع الاقتصادي فتوقف الاستثمار وتراجعت السياحة وزادت معدلات البطالة مرة أخرى في بلدان حافظت على سلمية ثورتها (مصر، تونس البحرين)، في حين تدمر الاقتصاد بشكل كلي تقريبا في بلدان الثورات المسلحة (ليبيا، سورية، اليمن)، فخسرت سورية حوالي أربعة عقود من التنمية البشرية، وهو أمر كارثي بامتياز، الأمر الذي يطرح أسئلة عدة عن أسباب عدم تحقق المطالب الاقتصادية والاجتماعية لشباب الثورات في مستوى أول، وعن سبب تراجع هذه المطالب اليوم في مستوى ثان، وعما إذا كان هناك اختلاف في هذا الأمر بين بلدان الثورات المسلحة وبلدان الثورات السلمية في مستوى ثالث.

إن تأمل هرم السلطة وطبيعة الفاعلين فيها (أحزاب وتكتلات وشخصيات) اليوم في بلدان مثل تونس ومصر، سيبيّن لنا بوضوح أن الثورة المضادة فعلت فعلها، فعلى مستوى الرئاسات فإن السيسي هو ابن المؤسسة العسكرية العريقة، والسبسي هو ابن النظام البورقيبي  (ترادف الحداثة والعلمنة مع الاستبداد) في العمق، وعلى مستوى الأحزاب، فإن الأحزاب المشاركة في السلطة في تونس وتلك الموجودة في المعارضة هي أحزاب تقليدية، ذات مصالح مترابطة مع السلطة من جهة ومع رؤوس الأموال من جهة أخرى، في حين تبدو أحزاب اليسار التي تحمل تاريخيا همّ الطبقة العاملة وحقوق العمال هي الأضعف، الأمر الذي يعني أن السلطة لازالت في يد القوى التقليدية ذاتها، في حين أن قوى الثورة الشابة لا زالت بعيدة عن امتلاك آليات القرار لدفع الأمور باتجاه تحقيق مصالحها، فيما تمتلك القوى التقليدية التي تضررت مصالحها من الثورة منافذ السلطة والمال، وهي تعيد ترميم قواها الآن عبر مركب سلطوي جديد.

يمتاز الجيش المصري عن غيره من الجيوش العربية الأخرى بمصالحه الاقتصادية الواسعة، فهو شريك أساسي في الاقتصاد المصري، وهذا ما يحتم عليه أن يكون له علاقات وشراكات مع القطاع الخاص ورجال المال، وهذا كان جوهر نظام مبارك القائم على تحالف البرجوازية المصرية والجيش ومؤسسات الأمن للحفاظ على الثروة والسلطة. مع عودة الجيش إلى السلطة اليوم، عاد هذا المركب ليرمم مصالحه ويحميها، ليس بقوة الاقتصاد فحسب، بل بقوة القمع الذي عاد اليوم بشكل أشد، ليخسر المصريون ثورتهم في مستواها السياسي، مع خيبة البعد الاقتصادي الاجتماعي مضافا إليه ما راكمته سنوات الثورة من تراجع في الاستثمار والسياحة وتآكل في الاحتياطي النقدي وزيادة عدد العاطلين من العمل. وهذا أمر ما كان ليكون لولا رضوخ الأحزاب السياسية التقليدية في مصر أيضا للسلطة الجديدة، التي غلّبت مصالحها وخوفها من الإخوان على حساب مصالح الثورة والشعب، فانحازت لما تسميه "الاستقرار" على حساب "الثورة" التي عادت للتوقف عند المستوى السياسي، باعتبار أن السلطة هي المدخل الأساسي لتغيير السياسات الاقتصادية الاجتماعية.

في بلدان الثورات المسلّحة، أدى عنف السلطات الوحشي وقوة التدخلات الخارجية وضعف الحوامل الاجتماعية والسياسية في ظل غياب الحد الأدنى من تقاليد العمل السياسي إلى انفتاح هذه البلدان على مخاطر تعدت مطالب الثورة بشقيها السياسي والاقتصادي الاجتماعي إلى مخاطر التقسيم والتفتت الاجتماعي والحرب الأهلية المديدة، الأمر الذي جعل عامل الأمان والنجاة يحتل الأولوية لدى سكان هذه البلدان، وهو ما تخبرنا به قوارب الموت وحدها.

على مستوى آخر، ثمة عاملان خارجيان ساهما كثيرا في تراجع المطالب الاقتصادية الاجتماعية، أولهما قوة دور الخارج بمستوييه الإقليمي والدولي، فعلى المستوى الإقليمي أدى خوف السلطات من تمدد الربيع إلى بلدانها فعملت على إجهاضه في أرضه، عبر المال والعنف والسلاح وحرفه عن مسيرة الحرية والديمقراطية والمطالب الاجتماعية نحو الحرب الأهلية أو الدولة الدينية، مما شكل حائط صد أمام شعوبها التي اختارت الأمان بدلا من الثورة، وقد رأينا نفس الأمر بعد احتلال بغداد ودخولها نفق الحرب الأهلية الطويلة، حيث تراجعت مطالب الإصلاح في سورية (مثالا لا حصرا) آنذاك لصالح الاستقرار والأمان. وعلى المستوى الدولي، تسعى الدول الكبرى إلى أن تكون بلدان الربيع العربي (وبلدان العالم الثالث كلها بطبيعة الحال) مجرد أسواق تابعة لأسواقها الكونية، دافعة تلك البلدان نحو تحقيق وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين والسير في طريق الاقتصاد الليبرالي الذي يحوّل الاقتصاد الوطني إلى مجرد تابع ملحق بالاقتصادات المركزية العالمية، بما يعني ذلك من تراجع التزامات الدولة بالمواطنين وتخفيف مستويات التوظيف وفتح كل شيء للاستثمار، ولهذا لا يهم هذه البلدان من يحكم، بل من يحقق لها ذلك، ما رأيناه في تلاقي مصالح الثورات المضادة مع مراكز المال العالمية والإقليمية ضد أحلام الشعوب بالحرية والعدالة الاجتماعية.

ثانيهما: الإرهاب الذي ولد في ظل الثورات، والذي تعتبر "داعش" تكثيفه الأشد، بات يشكل خطرا جسيما ليس على حدود الدول فحسب، بل على وحدتها الاجتماعية في ظل تراجع قدرات الدولة وامّحائها، وهو ما يخبرنا عن دور العامل الاقتصادي الاجتماعي في توفير حواضن الإرهاب، في ظل وجود الكثير من "أبناء البلد" في هذه التنظميات. وهنا باتت "محاربة الإرهاب" تحتل الأولوية، وهو ما تستغله سلطات الثورة المضادة والسلطات التي لم ترحل بعد، مستغلة خوف الجماهير لتحجب الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية للثورات، معطلة عملية التغيير مرة أخرى.

أمام قوة اليأس السابق، لازالت تونس تشكل الأمل الوحيد، كون التدخلات الخارجية لم تصل حد نسف المرحلة الانتقالية من أساسها (كما في اليمن)، ولم يتدخل العسكر في السلطة بشكل فج ( كما في مصر) ولم يتوّسع الإرهاب فيها كثيرا ( كما في ليبيا وسورية)، ولا زالت الأحزاب والمؤسسات والنقابات والمجتمع المدني تعمل في ظل دولة الحد الأدنى من الحريات، ما يعني أن طريقها نحو تحقيق التحوّل الاقتصادي الاجتماعي للثورة لازال مفتوحا.


(سورية)

المساهمون