دعوى جنوب أفريقيا حول الإبادة الجماعية

دعوى جنوب أفريقيا حول الإبادة الجماعية مستقبلها والمواقف الدولية منها

28 يناير 2024
وفد جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية (دورسون أيدمير/الأناضول)
+ الخط -

بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عدوانًا حربيًا على كلّ قطاع غزّة على إثر عملية "طوفان الأقصى"، التي أطلقتها كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي اخترقت فيها حدود قطاع غزّة نحو الأراضي الفلسطينية المُحتلة. خلف العدوان الحربي حتّى اللحظة عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، إلى جانب إلحاق دمارٍ واسع النطاق في البنية المدنية والصناعية في قطاع غزّة. وعلى إثر هذه المُخلفات المهولة؛ التي ما زالت تتصاعد حتّى اللحظة، تحركت حركات التضامن الرافضة للعدوان الحربي الوحشي على قطاع غزّة في معظم بلدان العالم، وقد اتهمت هذه الحركات التضامنية، إلى جانب تقارير العديد من المؤسسات والمنظمات العالمية ذات الاحترام العالمي بأن ما يدور في قطاع غزّة هو جريمة الإبادة الجماعية، المعروفة بأم الجرائم. وقد ضغطت هذه التظاهرات على الحكومات من أجل تحريك الدعاوي ضدّ الحكومة الإسرائيلية أمام المحاكم الدولية.

بناء عليه، لم تقف دولة جنوب أفريقيا مكتوفة الأيدي لقاء ما يحدث، وما يقدم لها من مطالبات في التظاهرات المنعقدة في جوهانسبرغ ضدّ العدوان الحربي على قطاع غزّة، بل حركت دعوى قضائية ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وطالبت بإدانة إسرائيل لارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، لقاء مخالفتها لالتزاماتها الواقعة عليها بموجب أحكام اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.

خطورة التُهمة المٌقدمة تجاه إسرائيل كمرتكبةٍ لجريمة الإبادة الجماعية -أم الجرائم- يجعل الدول تتأنى حتّى تدعم مثل هذا القرار أمام الهيئات القضائية الدولية

مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية

بدايةً؛ محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتّحدة، ويقع مقرها في لاهاي بهولندا. وهي الجهاز الوحيد من بين الأجهزة الستة للأمم المتّحدة الذي لا يقع في نيويورك. وقد أُسست عام 1945، وبدأت أعمالها في عام 1946، وتتألف هيئتها من 15 قاضيًا من مجموعة من البلدان حول العالم، ينتخبون في الجمعية العامية ومجلس الأمن التابعين للأمم المُتّحدة. وتتولى المحكمة الفصل؛ طبقًا لأحكام القانون الدولي، في النزاعات القانونية، التي تنشأ بين الدول، وتقدم آراءً استشاريةً بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتّحدة، ووكالاتها المتخصصة. تبعاً لهذا الاختصاص القضائي حركت دولة جنوب أفريقيا دعوها القضائية في 29/12/2023، متهمةً إسرائيل بمخالفة التزاماتهم بموجب أحكام الاتّفاقية، من خلال مذكرةٍ قانونيةٍ من 84 صفحة، أشار فيها الفريق القانوني لدولة جنوب أفريقيا للجرائم المرتكبة، وقد فصلها ودعمها بأدلةٍ قانونيةٍ بناءً على أنماط الجرائم الإسرائيلية المُرتكبة في المادة 2 من اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، مثل القتل والتجويع، والتعذيب، ومنع وصول الخدمات الإنسانية كالدواء والطعام والماء. كما حاول الفريق الجنوب أفريقي في مذكرته إثبات القصد الجنائي؛ الركن الأصعب في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أمام المحاكم الدولية، وقد اعتمدوا في التدليل على ذلك على طيفٍ واسعٍ من التصريحات المحرضة على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية الصادرة عن صناع القرار الإسرائيليين، وأفراد الجيش وضباطه، والبرلمانيين، وصحفيين ومؤثرين، ومسؤولين حكوميين سابقين في إسرائيل. إضافةً إلى ذلك، حاول الفريق الجنوب أفريقي التثبت من هذه الادعاءات عبر الاستناد إلى المواقف والتقارير والتصريحات الصادرة من قبل الجهات الأممية والدولية، التي تؤكد ارتكاب سلطات الاحتلال الإسرائيلي لجرائم الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في قطاع غزّة.

من الجدير ذكر أن دعوى جنوب أفريقيا قد اشتملت على طلبٍ للحكم في التدابير المؤقتة، كإجراءٍ فرعيٍ مُستعجلٍ عن الدعوى التي طلب فيها إدانة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وقد طلبت فيها على وجه السرعة تعليق العملية العسكرية في قطاع غزّة،  ضمان اتخاذ الإجراءات بعدم مواصلة العملية العسكرية، واتخاذ التدابير لمنع ارتكاب الإبادة الجماعية، والكف عن ارتكاب أي فعلٍ يقع ضمن المادة 2 من الاتّفاقية، إضافةً إلى طلبها بوجوب منع طرد الفلسطينيين من منازلهم، أو حرمانهم من الحصول على الغذاء والدواء والمساعدة الإنسانية. هذه الطلبات المستعجلة سوف تحكم فيها محكمة العدل الدولية قريباً، مع حوالي نهاية الشهر القادم تقريباً، وهذه الطلبات المُستعجلة في ذاتها ستشكل مسار المحكمة مستقبلاً، إذا فصلت فيها المحكمة من خلال الحكم بوجود شبهة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. وعليه فإن هذا يُظهر أن المذكرة قد صيغت بطريقةٍ ذكيةٍ تسعى إلى التركيز الأساسي؛ في هذه المرحلة، على أن ينصب إثبات أن الأفعال الإسرائيلية "يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتّفاقية". وهذا يعني أنه بدلاً من إثبات حالة الإبادة الجماعية برمتها، يجب على جنوب أفريقيا أن تثبت أن الوضع الحالي يمكن أن يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ما يجعل في النهاية عتبة عبء الإثبات أكثر سهولةٍ، ويساعدها في الحصول على قرارٍ من المحكمة بالطلبات المُستعجلة، إذ إن المحكمة قد أعلنت في 12/1/2024 اختتام جلسات الاستماع لأطراف الدعوى، وصرحت بأن قرارها في ما قُدم لها من طلباتٍ مُستعجلةٍ سوف يصدر قريباً في وقتٍ تعلن عنه لاحقاً.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

المساندة الدولية لجنوب أفريقيا أمام الجرائم المرتكبة في قطاع غزّة
في الإطار ذاته؛ على الرغم من قوة الملف القانوني المُقدم من قبل دولة جنوب أفريقيا، وما يحتوي من حججٍ مفندةٍ ومدعمةٍ بأسانيد ودلائل قانونية، يحتاج ملف دولة جنوب أفريقيا إلى دعمٍ من قبل الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة، ومصادقة على اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948. حيث إنّ هذا الدعم القانوني والاصطفاف إلى جانب ملف دولة جنوب أفريقيا سوف يعزز من أهميته أمام هيئة المحكمة، في ما يقع أمامها من طلباتٍ على جدول أعمالها، ويرفع درجة الموثوقية بأن ما يدور في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصّةً قطاع غزة، هي جريمة إبادةٍ جماعيةٍ ذات اهتمامٍ وقلقٍ عالميٍ، وفيها خرقٌ وتجاهلٌ صارخٌ لأحكام القانون الدولي، بما في ذلك اتّفاقية الإبادة الجماعية. وقد قالت جنوب أفريقيا إنّ أكثر من 50 دولةً قد أعربت عن دعمها لقضيتها في المحكمة العليا بالأمم المتّحدة، إذ حظيت المبادرة القانونية التي طرحتها بتأييدٍ رسميٍ من تركيا، وماليزيا، والأردن، وبوليفيا، وجزر المالديف، وناميبيا، وباكستان، وفنزويلا، وكولومبيا، والبرازيل، وبنغلادش. كما أعلنت منظمة التعاون الإسلامي، والجامعة العربية دعمهما للقضية، وأعربت دولة سلوفينيا أنها تعتزم الانضمام إلى جانب دولة جنوب إفريقيا بناءً على توجيه وزارة الخارجية والشؤون الأوروبية، في حين عارضت مجموعةٌ من الدول دعوى جنوب أفريقيا، آثرت الانضمام إلى جانب إسرائيل، هي الولايات المتّحدة، وألمانيا، وبريطانيا، وهذه الدول الحليفة لإسرائيل والممولة لحرب الإبادة التي تقوم بها في قطاع غزّة.

وقد أساءت الأوساط الحقوقية؛ خاصّةً العربية منها، في عدم تقديم الدعم الكافي لدعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية من قبل الدول العربية والإسلامية، وبالرغم من الرمزية التي شكلها تحريك جنوب أفريقيا للدعوى القانونية أمام محكمة العدل الدولية، كونها دولة غير عربية، إضافةً إلى أنّ دولة جنوب أفريقيا لديها سوابق تاريخية في نضالها ضدّ الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، وخاصّةً الفصل العنصري، الذي ناضلت من أجله لسنواتٍ طويلةٍ، الأمر الذي يُظهر أن القضية أمام المحكمة ليست مجرد طرف عربي ضدّ طرف إسرائيلي. وهنا نود أن نشير إلى أن سبب ضعف الدعم للملف القانوني لجنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وتأخره من ناحيةٍ أخرى يعود إلى الضغوط الأميركية، ابتداءً على الكثير من الدول المتوقع دعمها لدعوى جنوب أفريقيا، إذ لا يرقى عدد الدول الداعمة لدعوى جنوب إفريقيا إلى حجم الجريمة المُرتكبة في قطاع غزّة تجاه المدنيين والأعيان المدنية. ولهذه الضغوط سابقةٌ في القضايا الفلسطينية، خاصّةً في انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، والعقبات التي وُضعت في طريقها، والعُقوبات التي فُرضت على الفلسطينيين، من تقليص الدعم، إضافةً إلى العقوبات التي فُرضت على المحكمة وهيئتها. خطورة التُهمة المٌقدمة تجاه إسرائيل كمرتكبةٍ لجريمة الإبادة الجماعية -أم الجرائم- يجعل الدول تتأنى حتّى تدعم مثل هذا القرار أمام الهيئات القضائية الدولية، خوفاً على علاقاتها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية مع المجتمع الغربي، خاصّةً الولايات المتّحدة وبريطانيا وألمانيا. ضعف الهيئات العربية والإسلامية الإقليمية (جامعة الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامي) في حشد وتجميع الرأي العام السياسي العربي، والإسلامي نحو الدفع بحماية مواطني الدول المُشكلة لهذه المُنظمات. فقد أدت الصراعات الداخلية داخل هاتين الهيئتين، خصوصًا، إلى تغييب دورهم الريادي في قيادة المشهد العربي والإسلامي، والدفع لحماية المصالح والقضايا الجامعة لمكونات هاتين المنظمتين.

كما حاول الفريق الجنوب أفريقي في مذكرته إثبات القصد الجنائي؛ الركن الأصعب في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أمام المحاكم الدولية

آثار قرار محكمة العدل الدولية على الملاحقة الجنائية للقادة الإسرائيليين

من الجدير الختام بأن الحكم المبدئي؛ الذي سيصدر عن المحكمة في طلب التدابير المؤقتة (كإجراء فرعي مُستعجل)، سوف يرسم المسار المستقبلي لمحكمة العدل الدولية، وما سيتبعه من مساراتٍ قضائيةٍ أخرى أمام ذات المحكمة أو غيرها. فإن قضت المحكمة بالطلبات المُستعجلة لدولة جنوب إفريقيا، وعلى رأسها الوقف الفوري للعملية العسكرية، والإلزام بحفظ الأدلة التي تشير إلى احتمالية ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، فإن هذا سيمهد للفصل الكلي في ملف الدعوى -الذي سيستغرق سنوات-، إضافةً إلى ذلك؛ سوف يفتح الباب أمام التحقيق في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة من قبل قادة الكيان الإسرائيلي أمام المحكمة الجنائية الدولية. أيضاً؛ سوف يساهم ذلك في تحريك قضايا جنائية أخرى أمام المحكمة الوطنية، التي تُفعل الاختصاص القضائي العالمي؛ "هو الاختصاص الذي يمنح الدول سلطة محاكمة مرتكبي جرائم خطيرة معينة، حتى لو لم يكن للدول أيّ صلةٍ بالمتهمين، أو الأفعال التي ارتكبوها"، فقد حركت شكوى جنائية أمام مكتب المدعي العام ضدّ الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتسوغ"، خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.